إذا أردنا أن نتخلص من داء الإعجاب وبلاء الكراهية، فينبغي أن نكافح فيروس الغُلُو، ونقضي على جرثومة الكراهية، وبذلك سننظر إلى الأمور بموضوعية، ونرى الأشياء كما هي دون إضافات العواطف وتمحل العصبيات، وهنالك نسلك أصلح السبل للعبور إلى أقرب المواقع لمعرفة الحقيقة. التيه بين غُلُوّ المحبين وصَلَف المبغضين
حينما نراجع أسباب ومسوغات المواجهات المسلحة التي جرت بين الأمم والأجيال السابقة، بما في ذلك ما جرى بين مجموعة من كبار الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين؛ فإننا نجد من خلال استعراض المصادر والمراجع المختلفة أن كثيراً من الحقائق تتلاشى مع مرور الزمن ويحل محلها غثاء من الدعاوى والتَّخَرُّصات تحت وطأة عواطف المحبة والكره والموالاة والمعاداة، ويتضح لنا بقليل من التأمل أن الأحكام المُسبقة التي يفترضها الفرقاء، هي ما تُحَيِّدُ العقلَ والمنطقَ، وتتجاوز النظرةَ الموضوعية، وبالتالي تقرر أحكاماً وتبني مواقفَ تنعكس – في الحاضر – على مستوى العلاقة بين المسلمين، وتدفع كل فريق إلى أن يقرر ألا يصغي لغير نفسه وفئته، ويصوب ما صوَّبوا ويخطئ ما خطأوا، سواء كان له نصيب من المصداقية في الواقع أم لا.
وذلك الذي جري في التاريخ نراه يجري اليوم أمام أسماعنا وأبصارنا، فما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه البارحة بالليلة؛ لأن مرجع ذلك كله حالة نفسيةٌ وأخلاقيات واحدة، تتمثل في عاملين أساسيين:
أحدهما: «غلو المحبين»، فالموالي لشخص أو جهة مخصوصة، والمتطلع لأمر أو نتيجة معينة، غالباً ما تحركه عواطفٌ ورغباتٌ تسيطرُ على مشاعره وتسبق عقلَه الموضوعي إلى اتّخاذ القرارات، فيندفع دون تأمل، ويقع في كثير من الأخطاء والتَّجاوزات، التي لا يراها إلا صواباً نتيجة غُلُوٍّ يحجب الوعي ويُعَطّل القدرة على المراجعة والتّفكير.
ولهذا السبب نجد القرآن الكريم ينهى عن الغُلو بكل أشكاله، وإن كان يتعلق بأمر مقدس كالدين، حيث قال الله لنبيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة : 77]؛ لان الغلو – في كل شيء بما في ذلك الدين – يسلب الإنسان معنى الفكر وحلاوة الطمأنينة والإيمان.
ثانيهما: «صَلَف المُبغضين»، فالذي ينطلق في تقييم أشخاص أو جهات أو مواقف من منطلق الشَّنَآن والعداوة، فإنه لا يرى فيه غير ما قرر أن يراه من سلبية وبُعد عن الحق والصَّواب، ولا يسعه أن يستحضر إمكانية أن يكون بَغِيْضَه على جانب من الحُسن، أو أن له حظاً من الحقيقة.
ولهذا السب نجد القرآن ينهى عن هذا الصلف والجور في تقدير الأمور، وإن كان من شخص مؤمن تجاه شخص كافر، حيث قال الله للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. لأن العدالة والإنصاف تقتضي القبيح والحسن يظل كذلك، ولا يَتَغيَّر بمجرد اختلاف القائم به أو فيه أو عليه.
إن حالة الحب والكره تولد الاصطفاف والتحيز، والتحيّز يولد العصبية، والعصبية تولد الكراهية من جهة والغوا من جهة أخرى، وهذه وتلك تفتك بالعقول وتشوش الرؤية وتَنْخر في سلامة وصلابة الضمير الحي، فيأخذ في تبرير القبائح هنا واستنكارها هناك، ويتجاهل الحَسَن هناك ويستحضره هناك، دون سبب سوى طبيعة الموقع الذي يقف الإنسان فيه.
فإذا أردنا أن نتخلص من داء الإعجاب وبلاء الكراهية، فينبغي أن نكافح فيروس الغُلُو، ونقضي على جرثومة الكراهية، وبذلك سننظر إلى الأمور بموضوعية، ونرى الأشياء كما هي دون إضافات العواطف وتمحل العصبيات، وهنالك نسلك أصلح السبل للعبور إلى أقرب المواقع لمعرفة الحقيقة.