بوابات الرحيل رواية عن تراجيديا عربية معاصرة
بيـن لونيـن: أستقبـل الأصدقـاء
الذيـن يـرون سريـري قبـرا
وحياتــي دهــرا
وأرى فـي العيـون العميقـة
لـون الحقيقـة
لـون تراب الوطـن يمن مونيتور/العرب اللندنية
بيـن لونيـن: أستقبـل الأصدقـاء
الذيـن يـرون سريـري قبـرا
وحياتــي دهــرا
وأرى فـي العيـون العميقـة
لـون الحقيقـة
لـون تراب الوطـن
عبر هذا المشهد لأمل دنقـل، يدخل الكاتب المصري بكري عبدالحميد إلى عالم روايته «بوابات الرحيل»، وفيها تتوالى مشاهد تراجيديا عربية بدأت عقب حرب 1973، وما تلاها من مدّ الأيدي إلى العدو، بطريقة أقرب إلى التوسل، من دون الحصول على ضمانات أو على مقابل يوازي هذه التضحية الأقرب إلى التنازلات المجانية.
في الرواية التي أصدرتها سلسلة روايات الهلال بالقاهرة، يطلّ موت متوقع على المستشفى حيث يرقد الشاب، أو ذلك الذي كان شابا وشاهد توالي خيبات أمله، فلا يدهشه الموت، بل يراه في عيون الزائرين، يستضيفه على السرير، ولكن الموت يتأخر إلى أن يأتي كقوس أخير، أو ستار يسدل والمريض يتمدد «بطول الصحراء وعرضها، أبتسم لأصدقائي الموتى، أتلفت يمينا ويسارا، أنظر إلى عيني مريم، ينبثق النهار، هل هذا هو الموت يا مريم؟ إن كان هو فدعيني أغمض عينيّ فلا أرى سواك، ولا حتى الموت الذي لم أعد أنتظره، ولا ينتظرني».
من سرير المرض/ الموت، وقبل أن يعبر البوابة إلى العالم الآخر، يرصد بطل الرواية خارطة الخراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مصر والعالم العربي، ويتناول جوانب من تراجيديا كان شاهدا عليها منذ منتصف السبعينات، مرورا بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت والذي خطف حبيبته، وصولا إلى الاحتلال الأميركي للعراق.
في «بوابات الرحيل» شخصيات متعددة، وربما كثيرة على رواية قصيرة تعتمد على الجملة القصيرة، وترسم مشاهد خالية من العنـاصر الإضافيـة، كمـا تتداخل فيها الأزمنة.
من مبنى كلية الآداب بجامعة القاهرة، إلى ميدان التحرير ووسط القاهرة المنذورين لانتفاضات شعبية مجهضة، بدأت الرواية بأحداث يناير 1977، وكان بطل الرواية شاهدا عليها، مشاركا فيها، داعيا إلى حرية المعتقلين، وإلى العدالة الاجتماعية، وتفاءل عندما رفع أحد المتظاهرين صورة أنور السادات «وأضرم فيها النار، التفّ عدد من الثائرين حول النار، زاغت عيناي في المشهد، من الصعب أن تعثر على شخص تريده، إنه يوم الحشر، إنه الزحام والغضب والثورة، اليوم أشدّ عنفا وأكثر عددا من سابقه، أصوات المظاهرة الكبرى في ميدان التحرير».
في أحـد وجـوه الرواية يمكن اعتبارهـا توثيقـا فنيـا إنسانيـا يعنى بالصراع غير المتكافئ بين سلطات عربية يتناسل فيها الطغاة وشعوب لا حيلة لها إلا انتفاضات تخيب غالبا. فما كاد غبار الانتفاضة الشعبية يهدأ حتى دارت تروس طاحونة كامب ديفيد، رغم التوجس الشعبي، والرفض الطلابي والنقابي والثقافي، حدث جلل في آثاره، رآه البعض عظيما ورآه آخرون خيانة للوطن وللعروبة ولكل ميراث جمال عبـدالناصر، ومـن آثاره الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، جرح مهين راحت مريم ضحية له وهي تغطي وقائع الكـارثة لوكـالة الأنباء في القـاهرة.
العطب الذي أصاب الإدارة السياسية لمصر ومس العالم العربي، ترك آثاره على المستشفى، وطن المرضى المساكين، شهود الفساد الإداري، والتواطؤ وبيع الأدوية والأجساد. مجتمع صغير يضمّ صنوفا شتى من البسطاء والأطباء والممرضات، وعامل المشرحة «غباشي» حارس الموت الصارم، ولكنه رغم قسوته الظاهرة يحمل هشاشة وضعفا إنسانيا، لم يبرح قلبه الضعيف الذي ضبط نبضه على اسم زوجته المتوفاة، منذ خطفها الموت بعد أن ظن الحياة تبتسم له حين خرج مرفوع الرأس كأحد جنود حرب أكتوبر 1973.
في المستشفى كانت تأتيه أخبار الكوارث، عبر شاشة التلفزيون، مسكونة بالوجع، وهو يرى اقتحام الجيش الأميركي لبغداد، فتنفرط آخر حبة في عقد أحلامه، ويعجز حتى عن الحكي، حيلة الشاهد العاجز. أما وقد حكى، فلا مفرّ من الرحيل؛ «بوابات الرحيل» مرثية بعمق الجرح العربي.