تمكنت اللغة الإنجليزية من احتلال موقع عالمي متقدم، وظل متقدماً رغم سقوط الإمبراطورية البريطانية العالمية، وذلك منذ أن تبنت أميركا اللغة الإنجليزية لتكون لغةً رسمية لها مع أنها لغة المستعمر، ففي عام 1776 استقلت الولايات التي أصبحت الولايات المتحدة الأميركية، وكان لا بدّ لها أن تعتمد لغة رسمية لهذه الجمهورية الجديدة التي أعلنت عن نفسها، وكان الخيار بين الألمانية أو الإنجليزية بوصفهما اللغتين الأكثر استخداماً في عدد من الولايات حسب مواطن استيطان المهاجرين، وتم تبني الإنجليزية بالتصويت بين الخيارين، وهذا ساعد على مواصلة نشر اللغة الإنجليزية عالمياً، وكانت قد حظيت بانتشار في كافة مستعمرات بريطانيا التي وصفت حينها بالإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، مما عنى أن شمس اللغة الإنجليزية دوماً مشرقةٌ، وجاء تبني أميركا لها ليضمن دوام هذا الشيوع وزادها نشراً في المعمورة، هذا أولاً، وثانياً فإن أمركة الإنجليزية حررتها من سلطة ماضيها؛ إذ ليس للأميركيين ولاء لماضي اللغة وتقاليدها، فاستخدموها بحرية واستقلال ذاتي في نحو اللغة ومعجمها وصيغها، ما جعلها لغةً حديثة، وكأنها ولدت يوم استقلال أميركا بلغة فتية مع دولة فتية تتميز بأنها تخلصت من المستعمر عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وأهم من ذلك لغوياً؛ بمعنى أنها تملكت زمام اللغة وقيادة مآلات اللغة، وهذه مزايا لا تتوافر في أي لغة تقليدية مهما عظم ماضيها، بل إن ماضي اللغة يعيق تحررها وانطلاقها دون قيود، ولذا فلن تتفوق الصينية مثلاً حتى لو أصبحت قوةً عظمى، لأن عظمة الدولة الاقتصادية والعسكرية وإن سيطرت، لكن لغتها لن تسيطر، لأنها لا تتسم بالحداثة اللغوية التي تجعل الاستخدام الميسّر أهم من القواعد والضوابط، وكذلك فاللغة الإغريقية رغم عراقتها وتفوقها فلسفياً لم تعد لغةً عالمية، بل لقد تخلى عنها أهلها، في حين ظلت فلسفة الإغريق مهيمنة دون أن تتمكن من فرض لغتها.
ولولا تحول اللغة الإنجليزية لتصبح لغةً أميركيةً بشروط وصيغ أميركية، لآلت مآل اللغة الفرنسية مثلاً التي تأثرت بمحاصرة أميركا لها وأزاحتها عن العالمية، وهذا يجعلنا نتكلم اليوم عن اللغة الأميركية، لأن خصائصها تأمركت، وأذكر مما خبرناه في السبعينيات حين بعثتنا في بريطانيا، حيث كان الإنجليز ينفرون من أي كلمة أو تعبير أميركي، وكانوا يصححون نطقنا أو يستبعدون ما يقع على ألسنتنا من لفظ أميركي لا أصل له عندهم وأحياناً يفعلون ذلك مع شيء من الاستعلاء أو الاستهجان، وكأننا نرتكب إساءة غير مهذبة معهم ومع لغتهم، ونشأ عندنا نوع من العقدة اللغوية ضد كل ما هو أميركي لفظاً أو لهجةً، ولكن شباب الإنجليز اليوم تأمركوا في لغتهم وفي ذوقهم في الملبس والمشرب والموسيقى والمشاهدة والتوق للهجرة، وبريطانيا الرسمية هي أشد الأوروبيين تحالفاً وتماهياً مع أميركا بسبب اللغة، ما يشير إلى قوة مفعول اللغة في ربط العقول والقلوب والميول الوجدانية والعقلية.
*نشر أولاً في صحيفة الاتحاد الإماراتية