نحن الآن في اليمن، في القرن السابع الهجري، في ضيافة الأديب الشاعر: القاسم بن علي بن هُتَيْمِل، شاعر الرِّقة والعذوبة، والرجولة والشهامة.
نحن الآن في اليمن، في القرن السابع الهجري، في ضيافة الأديب الشاعر: القاسم بن علي بن هُتَيْمِل، شاعر الرِّقة والعذوبة، والرجولة والشهامة.
يا ابن هتيمل! قرأنا شعرك إذ كنا صغاراً، وحتى أصدُقَكَ القولَ فقد سمعناه قبل أنْ نقرأَه ولا تحُرجْني فتسألني كيف؟!
هنا ابتسم ابنُ هُتيمل وقال: حياكم اللهُ في أرض الجمال، في أرض البُنِّ ورقيقات البنان!، يا من جئتم من آخر الزمان، من زمان لا يعرف من الجمال إلاَّ اسمه!، فاغتنمتُ ابتسامته وقلتُ: بالله عليك! هل سمعتَ أنتَ أعذب من شعرك؟، وهنا ضحك ابن هُتيمل وعرف مقصدي وخُبث مرادي -أستغفر الله-!؛ وقال أتريد أن أخبرك؟ فلم أجد الكلام الذي يليق بالمقام فسكتُّ!، فألحَّ عليَّ فبكيتُ!، وقلت: أنت الذي تغار عليها من عينيك؟ وتطلب منها أن تخبئ وجهها عنك وقد نزعت عنها خمارها؟ أتريد أن تعذب نفسك وتعذبها؟ فابتسم وقال: هوِّن عليك! إنما كان ذلك خوفاً عليها مني ومن أعين العباد، أتعني:
أنا مِن ناظري عليك أغـــارُ
وارِ عني ما زال عنه الخمـارُ
قلت: زدني، فقال: وصفتُها فقلتُ على طريقة أهل زماننا في الغزل العفيف العظيم الرقيق لا كزمانكم! فخجلتُ، فأكمل:
يا قضيبًا من فضة يقطف الـنرجس
من وجنتيه والجلـــنارُ
قمرٌ طوَّق الهلال ومن شمــس
الدياجي في ساعديه سوارُ
قلتُ في نفسي هل أدعو عليه الآن أم أدعو له؟! من أين يأتي بهذا؟
يا عمَّ ابن هتيمل! أتعني أن وجهها مثل الشمس، وأن خمارها على رأسها مثل الهلال إذا بدا على قمم الجبال؟ فرمقني بعينه ولم يُجب! فاعتذرتُ له، وقلتُ: أعلمُ أنك أمرتها أن تغطي وجهها عن الناس، وهذه المرة علمتُ صدقك في خوفك عليها، فقلتَ –أنتَ-:
صنْ محياَّك بالنقــــاب وإلا
نهبته القلوبُ والأبصــــارُ!!
و (فلسفتَ!) خوفك بقولك:
فمن الغبن أن يُمــــاطَ لثامٌ
عن ثناياكِ أو يُحــــلَّ إزارُ!!
فارتاحَ لكلامي!
ثم قلتُ له: لكنك ندمتَ على نصيحتك لها! وإلاَّ لما وصفتَ برقعَها وجمالَ ما تحته بقولك:
عجبًا منكِ تحت بُرقُعُكِ الــنارُ
وفيه الجنَّات والأنهــــارُ!!
فدمعتْ عيناه وقال: يا بني! لا يصدُّهُنَّ عنَّا إلا البخلُ والشيبُ! ألم تسمع شكواي؟:
لا يصدُّ الملاحَ عن صِلة العُشــاق
إلا القَتيرُ والإقـــــتارُ
أَبْصَرَتْ مفرقي فأفزَعَها ليــــلٌ
تَمشَّى في جانبيه النهـــارُ
ففقدتُ وقاري وأدبي وقفزتُ في خفةٍ سخيفةٍ! وأمسكتُ بكتفيه وقلت: تعني بالليل شَعْرَ رأسك الأسود، وبالنهار شيب رأسك! أليس كذلك؟! فهز رأسه في حسرة وقال:
من مُعيري قلبًا صحيحًا ولو طـرفةَ
عينٍ إنْ كانَ قلبٌ يُعــــارُ
لا الزمانُ الزمانُ فيما عهـــدناهُ
قديمًا ولا الدِّيارُ الـــــدِّيارُ
ففاضتْ عيناي، وقبَّلتُ رأسَه، وودعتُه وهو جالسٌ غارقاً في دموعه!، وانصرفتُ من عنده عائداً إلى القرن الخامس عشر الهجري!!
المصدر:العرب القطرية