عرفت اليمن التفكك والتجزؤ، وتناثرت في أوقات عديدة، ولكنه كان من ناحية السلطة فقط، فالوحدة الحضارية لليمن منذ القدم كما تمثل في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والديني تؤكد على ترابط البلد وتكامل مناطقه المختلفة، بحيث لم يفقد اليمنيون شعورهم بيمنيتهم. في اليمن ليس هناك ما يوجب الخوف على الجغرافيا، بالقدر الذي يجب أن نخاف ونحذر من الإدارة السياسة، وفلسفتها وطريقتها في الحكم.
فإذا كان دور اليمن التاريخي غائباً في عهود التجزئة، فإنه كان أخف وطأة على المجتمع، وأهون على الناس من المأساة التي عانوها في بعض عهود التئام الجغرافيا والتحامها السياسي، على قاعدة الضم والسطو، والفتح، ونزعة التسلط وشهوة التملك، كما كان في عهود الإمامة التي خضعت اليمن لها بعض الفترات.
لقد عرفت اليمن التفكك والتجزؤ، وتناثرت في أوقات عديدة، ولكنه كان من ناحية السلطة فقط، فالوحدة الحضارية لليمن منذ القدم كما تمثل في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والديني تؤكد على ترابط البلد وتكامل مناطقه المختلفة، بحيث لم يفقد اليمنيون شعورهم بيمنيتهم.
وفي كل مرحلة من مراحل التشظي التي دخلتها البلد بسبب النزعات السلطوية لبعض القوى في طرق الوصول إلى الحكم والاستفراد بمنطقة مهما ضاقت مساحتها، فإن الحركة الداخلية للمجتمع ظلت ملحة في السير نحو الوحدة، وما من قوة بزغت وغدا لها وزن في الساحة الوطنية إلا وسعت إلى إخضاع بقية المناطق وإدخالها تحت حكمها. فاليمن من لا يعرف ظروفه الجغرافية، ويدرك خصوصياته التاريخية، وتأثيراتهما على الأوضاع الاقتصادية والسياسية لن يتمكن من إدارته واستقراره، فتماسك الجغرافيا في اليمن مرهون باستيعابها، والسياسة القادرة على صناعة الاستقرار للبلد، هي تلك التي تديره وفق منظومة التكامل بين مناطقه المختلفة، لا التكالب على ثرواته.
عرفت اليمن طيلة العصور الوسطى العديد من التمردات والحروب، وما زالت حتى اللحظة تخوض في صراعات متواصلة، غير أن هذه الاضطرابات التي صبغت تاريخ اليمن لا تعود إلى طبيعة المجتمع الذي يرفض الدولة، وإنما إلى فشل الإدارة والنظام الذي ظل يجبر الناس على التمرد والخروج، لأنه (ليس بإمكان القبائل الفرار من الدولة بالارتحال، وقد أظهرت بعض الدول التي قامت في اليمن الأسفل أحياناً كالصليحيين أو الرسوليين أو العثمانيين مدى ضعف حصانة القبائل). فسياسة تدمير القرى والمزارع وقطع الأشجار، ومصادرة الأموال التي أستخدمها ولاة الجور، والطامعون في السلطة، خلال العصور الوسطى مثلا، جعل من تلك المناطق التي عرفت الاستقرار أن تتحول إلى قبائل دائمة التمرد، ولعل في تاريخ الإمامة شهادة دامغة، اذ ظلت البلد في حالة تمردات متواصلة يعود سببها إلى طريقة الأئمة في الحكم، التي تقوم على احتكار السلطة، وغزو المناطق والاستفراد بخيراتها، كما أن تفكك البلد وخروج بعض أجزائه من سلطة الدولة (يعود أساساً إلى ضعف حكومته المركزية وليس إلى تعدد مناطقه الجغرافية، كما أن ظهور زعامات محلية في الوحدات الجغرافية لا يرجع إلى فقدان الشعور باليمنية بقدر ما يرجع إلى طموحات شخصية تستغل ضعف حكومة المركز وتعتمد على إمكانيات تلك الوحدات).
غياب الاستقرار أضاع الاستقلال!!
يفوق الاستقلال في نظر المجتمع اليمني الاستقرار في قيمته، وهذا دفع بعض القوى لاسترضاء النزعة اليمنية في رفع رايته خلال مراحل تاريخية عدَّة، رغم عدم أهليتها لحكم بلد كاليمن، ومع ذلك تمكنت في بعض الأحيان من السلطة، غير أن الفشل السياسي المستمر لهذه القوى في الحكم، وصناعة الاستقرار، دفع اليمنيين للتفريط في صيانة استقلاليتهم، فصراع مراكز النفوذ السياسية على السلطة، وعجز أي طرف منها على حسم الأوضاع لصالحه، حفَّز بعضها لطلب العون والمساعدة من الأجنبي كمرحلة آنية فقط، وفي أحيان أخرى التحالف معه وتسهيل سيطرته على البلد، نكاية في الخصم المحلي والمنافس الداخلي .
لقد سهَّلت الصراعات السياسية والاقتتال على السلطة بين الزعامات الداخلية، للغزاة الأجانب احتلال اليمن، ومن أمثلة ذلك أن رحى الحرب التي كانت تدور بين الطاهريين والإمام شرف الدين هو ما أعان المماليك في البداية على تحقيق مطامعهم في اليمن بين عامي 923 – 945 هـ، ودفع بالإمام الاستعانة بالمماليك الذين تمكَّنوا من الملك عامر بن عبد الوهاب وقتلوه على أبواب صنعاء التي كانت محاصرة من قبله.
ومن الأمثلة الدامية أيضاً أن الصراع الذي دار بين المطهر ووالده الإمام شرف الدين على السلطة في ذات الفترة “شغلهما عن صد تيار التوسع العثماني في أرجاء اليمن” بحيث استولى الأتراك في ذلك النزاع على المنطقة الممتدة من تعز جنوباً إلى جيزان شمالاً، ثم تقدم الوالي أزدمر من زبيد تجاه صنعاء، وتمكن من هزيمة المطهر حينها “ودخل صنعاء بمعاونة بعض أتباع المطهر.
إن الاستقراء التاريخي لحالة الصراعات بين القوى والأطراف اليمنية، يؤكد أنها كانت السبب الفعلي لبقاء أنظمة الفشل والعبث، وأنها كانت العامل المساعد والمساند لخضوع البلد للقوى الأجنبية، والمحفز للانتهازيين الداخليين في الوثوب على السلطة، وكانت النتيجة أن فقدت اليمن الاستقلال، والأنظمة الاستمرار، والمجتمع الاستقرار.
فشــل الإدارة وعجز الحكام
من المحزن في أمر اليمن أن الإدارة السياسية طيلة قرون من الزمن تمتد من العصور الوسطى وحتى اللحظة، كانت الآفة التي اجتاحتها ونخرت في كيانها، بحيث ظلت تستنزف اليمن وتهدر إمكانياتها، فسياسات القوى والجماعات التي وثبت على السلطة، وظهرت على مسرح الأحداث، سمحت وأدت طريقة إدارتها لليمن بخلق الاضطرابات والصراعات بين مختلف فئات المجتمع لتكفل استمرارية بقائها في الحكم، إذ لم تكن تستوعب اليمن وتدرك أسباب ازدهاره ورخائه، انحطاطه وانحلاله، تماسكه وتكامله.
مع العجز المزمن في العصور المتوالية للعديد من الحكومات التي برزت في اليمن، باختلاف وتنوع مشاربها، في إقامة دولة مستقرة، فإن هنالك استثناءات وفلتات تمكَّنت فيها اليمن من استعادة استقرارها ودورها التاريخي، غير أنها لم تحافظ على استمراريته، وقد كان مرد ذلك الاستقرار إلى التئام الجغرافيا أولاً تحت سلطة واحدة، واستغلال إمكانيات الموانئ اليمنية في دعم اقتصاد الدولة، ثم إلى قدرات الحكام الشخصية وكفاءتهم السياسية، أمثال المُكرَّم الصليحي، والمظفر الرسولي، والمتوكل على الله إسماعيل.
ومن هنا فإن عدم استقرار اليمن ظل نتيجة طبيعية لضعف الحكَّام، وفشل الإدارة في تسخير مميزات وقدرات الجغرافية اليمنية في بناء الدولة، إضافة إلى احتكار بعض القوى للسلطة كونها مفتاح الحصول على الثروة، الأمر الذي عزَّز لدى بعض المناطق رفضها الانصياع والالتفاف تحت راية هذه الحكومة أو تلك، كما ظل التفكك والتشظي الذي عانته اليمن ناتج عن سوء إدارته وفشل نمط نظام الحكم.
*محمد صلاح، باحث في المجتمع والتاريخ اليمني.