رواية «ممرات الريح» للسعودية نبيلة محجوب: نساءٌ في مهب المجتمع الأبوي
سعاد العنزي
تميزت رواية «ممرات الريح» للروائية نبيلة محجوب، بلغة سردية تتسم بالشعرية غير الـمُسرفة، وبسردٍ تناوب فيه الساردان ببراعة على تقديم الأجزاء الخاصة بحكايتَيهما، اللتين تتقاطعان في الرواية كثيراً. كما أدى التشويقُ والغموضُ وكشفُ الأسرار التدريجي، دوراً في جعل الرواية شائقةً. ومن خلال تقنية الفلاش باك، يعود الساردان إلى الوراء للإضاءة على بعض الأحداث المهمة، التي تفسر بعض المواقف غير المفهومة، وسرد حكايات نساءٍ عصفت بهن الريح، واستدعاء ذاكرة جمعية بإرث ثقافي وديني وشعبي.
ممرات الريح في الرواية، لم تكن ممرات تمرّ بشخوصها لتعصفَ بهم وتمرّ بهم بمنعطفات متعددة وحسب، بل هي ممرات تمر بالمكان والزمان لتغير صورة المجتمع، وتعيدَ تشكيله من جديد، لولا تمسك الشخوص بذاكرتهم الجمعية، والحنين الضارب في أعماقهم، الذي يعيدهم بين فترة وفترة إلى النبع الأول من الحكاية، إلى مكة المكرمة، بلورة النور المقدس، كما ورد في أول عبارة افتتاحية في الرواية: «مكة بلورة النور المقدس، المصقول بخُطى الأنبياء وأنفاس النبوة، زرعت فيها خطوات الصبا ولوعة الحنين، ما زالت عرشاً من نور في صدر الذاكرة، على الرغم من وجع الرحيل».
تتسع فضاءات رواية «ممرات الريح» الشاسعة والرحبة لتعبر عن عدد من الثيمات الإنسانية المهمة، والأمكنة والأزمنة. تعكس الرواية أثرَ الإزاحة العمرانية لسكان البيت الحرام، إلى مناطقَ أبعدَ عن حياة السكان، وتبين رفضهم وقبولهم بهذه الفرصة للدخول في عالم الثراء. كما تعكس بقوة صلابة الانتماء إلى المكان، مثل موقف والد بدرية، ساردة الرواية، التي تتناوب السرد معَ السارد الآخر سعيد سعد الدين، إذ يسرد كل منهما جزءاً متعلقاً بحكايته في المكان وأهله، وتحولات الزمان ودلالاته على الشخصيات الرئيسة. تتعانق الحكاية الشخصية مع شخصيات أهل الحي بسردٍ واقعي اجتماعي، يسجل تحولات المجتمع الاقتصادية والثقافية، وتحول أخلاقيات المجتمع على مدى نصف قرنٍ تقريباً. تسجل الرواية التفاتةً مهمةً إلى القيمتين الثقافية والدينية للبيت المقدس، وتنطلق من هُوية أهل مكة وسردياتهم الشعبية، وهذه تدوينة مهمة للفلكلور، تؤدي فيه الذاكرة السردية دوراً مهماً في حفظه من النسيان.
يشير المتخصص النفسي شوميكر في دراسته الدور الذي تؤديه الذاكرة في تشكيل الهوية والاحتفاظ بها إلى ما يلي: «يملك الأشخاص في ذاكرتهم وصولاً خاصاً إلى حقائق عن تاريخهم الماضي الشخصي وهوياتهم الخاصة، وهو نوع من الوصول الذي يفتقرون إليه، تجاه تواريخ وهويات الأشخاص الآخرين والأشياء الأخرى». يؤكد هذا على أن كل فرد يمتلك مجموعة مميزة من الذكريات الشخصية، التي تعتمد على إدراكاتهم الشخصية للأحداث، وهو أمرٌ لا يتشاركونه مع الأشخاص الآخرين، وهذا ما أشار إليه هالبواكس بأنه «ذكريات السيرة الذاتية». من الواضح أنه لا يمكن لأي مجموعة مفردة من الذكريات أن تحفظَ الماضي لشعب بأكمله، وعلى الرغم من ذلك، فإن الذكريات المتعلقة ببعض الأحداث، تستمر لفترة طويلة بعد رحيل الأشخاص الذين اختبروها في الأصل. يشير هالبواكس إلى أن السبب خلف ذلك، أن المجتمعات تستخدم طرائقَ مختلفة لتنظيم معرفتها المرتبطة بالماضي، وذلك من أجل الحفاظ على ذكرياتها المتعلقة بهذا. وبناءً على ذلك، يناقش أن ذاكرة السيرة الذاتية مكملة بوساطة الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية. وهذا ما يجعل رواية «ممرات الريح» تحتفي بمواقع الذاكرة والإرثين الديني والاجتماعي لسكان البيت الحرام، من خلال ما يفعله الرواة والشخصيات عبر استدعاء حكاياتهم الشخصية، وتقاطعهم في المكان الحي الذي جمعهم في جبل الساكن، الذي لم يستطع أن يمنع الريح من أن تعصفَ بهم. وكان للنساء النصيب الأكبر من عبث الريح بهن.
نساءٌ في مهب الريح
تعالج الرواية، برؤية نسوية واضحة، عدداً من الهموم النسوية المتعلقة بتعامل المجتمع الذكوري معَ المرأة، وبتعامل النساء الـمُشبعات بالرؤية البطريريكية معَ غيرهن من النساء، مثل كره أُم بدرية لابنتها، لأنها كانت سبباً في عدم إنجابها ولداً ذكراً بعد ولادتها إياها. كما تعرض الرواية قسوةَ المجتمع وعنفَه المُضمر والمُعلَن تجاه النساء، من خلال العلاقات الزوجية المتهالكة في بئر الخيانات الزوجية. على الرغم من أن الرواية ذات طابع اجتماعي، إلا أنها تأخذ من قصص النساء، بطلات الرواية، منطلقاً تدور العوالم السردية حوله، وتبين عدداً من الإشكاليات المُحيطة بالمرأة في مثل قضايا الوراثة، الزواج، وقدرة الرجل، حتى إن كان عاشقاً، على الارتباط بمحبوبته بعد انفصالين ورحم مفقود، فلو تقبل ألا يكونَ الرجل الأول في حياتها، فلن يتقبل أن يتزوج امرأةً منقوصة الأمومة. وهذا ما ترسمه الساردة بدرية بدقة في قصة أوجاعها الأنثوية التي مرّت بها من دون ذنب، إلا وقوعها في مجتمع تقليدي محافظ، يسور المرأة بنظرته التقليدية، فبدرية حُرمت من العطف الأمومي لأنها كانت آخر فرصة لأمها في الإنجاب، ما أدى إلى إيقاع العقوبات عليها من دون ذنب ارتكبته، وتمرّ بسلسلة من الأفعال الإقصائية لها؛ حُرمت من رحمها في زواجها الثاني، لأن زوجها لم يشأ أن تُنجبَ منه، ليأتي سعيد ويرفض الزواج بعد أن تنازعت هي وأختها بديعة على الفوز بوده، لأنها فقدت رحمها. وهنا تظهر صورة المرأة بوصفها مفعولاً بها، وليست فاعلاً في المجتمع. ممكن أن يكون فعلها في مجالها الإبداعي، أما في أن تملك شيئاً من قدرها الاجتماعي، وعلاقاتها العاطفية، فهي تنتظر زمناً من السنوات الضوئية، التي يصبح فيها الرجل قادراً على التعامل مع المرأة بطريقة تختفي فيها مضمرات التربية الذكورية.
حتى بديعة، شقيقة بدرية وحاملة أسرارها، لم تكن في منأى عن الاضطراب الهُوياتي من ناحية عقائدية، ومن ناحية عاطفية، فهي كانت على موعد مع خيبة عاطفية متأتية من أفق توقعاتها غير المشروطة بالواقع، وهو ما يشير إلى هشاشتها العاطفية، وعدم قدرتها على ضبط انفعالاتها وبوصلة أشواقها نحو الآخر.
إن «ممرات الريح» لا تنسى أن تمر على نساء عديدات لم تعد حيواتهن سوى ممرات تصفق فيها الريح عاكسة هشاشتهن في مجتمع ذكوري مهيمن، مثل أم بدرية وشقيقاتها، مفجرة أزمة النسوة اللاتي فقدنَ السند، وحُرمنَ من إرثهن، بسبب جشع عمهن وهيمنته على بقية أفراد الأسرة. ما يفتح سؤال المرأة والميراث وقدرتها على المطالبة بحقوقها، ومن ثَم قدرتها على تحصيل هذه الحقوق.
يؤدي الأدب أدواراً مُتعددةً تتعلق بالاشتغالات المعرفية إلى جانب الجمالية، مثل حفظ الذاكرة الجماعية للشعوب، وتمثيل البنية الثقافية لمجتمع ما من المجتمعات، كما يبين تحولات الأمكنة والأزمنة، والعادات والتقاليد في حقب زمنية عدة.
ذاكرة ثمينة غير قابلة للنسيان
يؤدي الأدب أدواراً مُتعددةً تتعلق بالاشتغالات المعرفية إلى جانب الجمالية، مثل حفظ الذاكرة الجماعية للشعوب، وتمثيل البنية الثقافية لمجتمع ما من المجتمعات، كما يبين تحولات الأمكنة والأزمنة، والعادات والتقاليد في حقب زمنية عدة. وحسب الباحث، فإن من يطلع على الآداب العالمية فسيجد هذا التنوع والتغير والتبدل في الممارسات والعادات والتقاليد. لقد ظهر مصطلح (موقع الذاكرة) عام 1977 لدى بيير نورا، عندما كان يكتب عن فرنسا، لكنه يستخدم الآن بكثرة. والمصطلح يحيل إلى أشياء مادية ومعنوية تحمل ذاكرة وإرثاً تاريخياً معيناً لأي جماعة إنسانية (Nora 1996: XVII)
ومن الممكن أن تحتوي مواقعُ الذاكرة الأمكنةَ؛ مثل المتاحف، الكنائس، المساجد، المعابد، الأرشيف، والمفاهيم والتطبيقات، مثل الشعائر والشعارات والذكرى؛ والأشياء مثل المنشآت والملكيات الموروثة، والكتيبات والأنصاب التذكارية، والأماكن القديمة… لقد تطور المفهوم على نحو أوسع ليشملَ هوية الجماعة، وليظهرَ في الأغاني والأعلام وكل التعبيرات الثقافية للجماعة. تتمثل نقطة الانطلاق في الجانب النظري هنا بالعمل على الذاكرة الجماعية، من قِبل عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكخ، الذي يعد واحداً من أكثر الشخصيات الرائدة في مجال دراسات الذاكرة، وقد طُبق عمله في العديد من المجالات الأكاديمية، مُذ نشره في الأصل عام 1950. كما ستستند إلى إعادة الهيكلة التي أجراها يان آسمان على أفكار هالبواكس الأصلية، ومنها حول المفهوم ذي الصلة، والمتمثل بـ»الذاكرة الثقافية» و»الذاكرة التواصلية». كان المنظران كلاهما مهتمين بالآليات التي تساعد في تشكيل الذاكرة، والدور الذي تلعبه الذاكرة في صياغة معنىً مميز للهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات، إضافة إلى تأثيرات الكوارث التاريخية في الذاكرة.
لقد ناقش كين تايلور «المشهد الطبيعي في البنية الثقافية يكون بمنزلة مرآةٍ لذكرياتنا وأساطيرنا التي ترتبط بمعانٍ يُمكن أن تُقرأ وتُفهم». إن جبل الساكن، يذكرنا بحارة نجيب محفوظ التي تحمي سكانها، فهو كذلك كان مثل السور المنيع الذي يحيط بسكانه ويحميهم من ممرات الريح ومنعطفاتها، ما إن يخرجوا منه فتتفرق بهم السبل، وتنعطف الحياة بمنعطفاتها المتعددة، لتسجل انكسارات أبناء الحي الواحد، قوة بعضهم، وضعف بعضهم الآخر، مثل علو شأن سعيد سعد الدين، وتشتت أسرة بدرية. إن ممرات الريح التي مرت بالأماكن وبجبل الساكن، ونقلت حالهم من حال إلى حال، من الفقر إلى الغنى، جعلت كلاً منهم يذهب والحنين يقتات على ذاكرته، مثل السارد والساردة، اللذين يكرران التذكر باستمرار لتلك التفاصيل، وليسرد كل منهما التحولات التي عصفت بحياته، فها هي بدرية تقول: «أضواء مكة تغمر الطريق، وتغمر قلبي، أتلفت حولي لأتعرفَ مدينتي التي خرجت منها وأنا بُرعم يتفتح، وأعود إليها وقد جفت أغصاني، وتساقط ثمري قبل أن يكتملَ وينموَ، عدتُ شجرةً لا تزهر ولا تثمر. الأضواء والإعلانات على واجهات المباني والمطاعم نزعت الروحانية التي طالما داعبت شوقي، شعور بالوحدة والغربة غمرني، لا أُلفة تربطني بالمكان». لم يقف الأمر عند بدرية وسعيد، بل تجاوزه إلى العمة رضية، التي تؤدي دوراً مهماً في السرد، واستدعاء التفاصيل المشتركة لهم، مثل يوم الصرافة، والاحتفاء بها عندما أكملت «جزء عم» وذكرها لبعض الشعر المكي، في إشارة منها إلى انفتاح مكة قبل ظهور جهيمان، فكانت مدينة منفتحة جداً على الأغاني، التي لم تحرم وتُمنع إلا بعد ظهور جهيمان. هنا تشير العمة إلى التغير الثقافي والتغيرات المصاحبة له، التي فرقت أبناء الحي الواحد، والإخوة والأخوات، عن حضور الأفراح. لم تنسَ الرواية أن تمر على أماكن وطقوس مثل القعدة، وهي أشبه بالديوانية التي تجمع رجال الحي، كما تقف عند مراسم الخطوبة والزواج واللبس والأزياء، وكل تفاصيل الفرح. وهذا يجعل الرواية تؤدي دوراً مهماً في حفظ الذاكرتين، الاجتماعية والتاريخية.
باختصار، إن رواية «ممرات الريح» رواية لها ممراتها ومنعطفاتها المبهرة، التي ستحجز موقعها المميز والأصيل في ذاكرة الرواية السعودية طويلاً.
المصدر: القدس العربي