لا تنهض المجتمعات ولا تستقر أوضاعها دون حكومة , حتى وان كانت عاجزة عن تحقيق تطلعات الشعب , يكفي ان لدينا حكومة نعمل على إصلاحها وتقويم عودها .
وبالتالي تغييب دور الحكومة , هو انشغال القوى السياسية في صراع التشكيل والتقاسم , هو صراع يدخل القوى في متاهات و مماحكات , ويبقى الوطن يعيش فراغ مؤسسي , يفتح بيئة خصبة لخلق كيانات غير منضبطة مؤسسيا ولا قانونيا , بل كيانات متناحرة فيما بينها عن النفوذ والسيطرة , ترفع شعارات كمزايدة , وهي تؤسس انقسام حاد على الأرض وفي أوساط المجتمع , وتعيد الموروث الاثني , فتحدث انقسامات حادة عرقية طائفية مناطقية عقائدية .
المشاريع الطائفية والمناطقية , او ذات التوجهات الإثنية والعقائدية , يصعب عليها اختراق مجتمع تحكمه مؤسسات , ومنضبط بنظام وقانون مؤسسي , المؤسسة ونظامها وقوانينها تجرم تلك النعرات والنزعات , وتحد من العنف الفردي والجماعي , بينما تلك المشاريع تعتمد على العنف لفرض واقعها , و تبدأ تؤسس قواعدها على فراغ مؤسسي , تستقيم تلك القواعد على شعارات حق يراد بها باطل فكرة المشروع ذاته , وخاصة في مجتمع مشحون تناقضات و محقون بالاختلافات , فيعتقد أصحاب تلك المشاريع ان باستطاعتهم استثمار كل ذلك لتأسيس قواعد مشروعهم .
أثبتت التجارب العلمية والدراسات المعرفية والحياتية , انه لا يمكن الرجوع بالزمن , وعلينا ان نستوعب ان الماضي قد مر فعلا , وصار تاريخ , تؤخذ منه العبر والدروس , وأن التغيير لا محالة , والوقوف في وجه عجلة التغيير مضيعة للوقت والجهد , وتأخير للوصول للأفضل , لان الأفضل هو تجاوز كل معوقات الماضي ومآسيه , والأكثر سوءا حتى من الماضي نفسه هو الذي يريد ان يعيد ذلك الماضي , مستخدما أدوات مثخنة بثاراته واحقاده وكراهيته , ويعتقد أنها الأفضل و المخلص لقضيته .
جوهر الصراع القائم في بلدي اليمن , هو بين ماضي مر , وحاضر يحاول ان يكون مستقبل افضل , وتم التوافق على هذا المستقبل نظريا في حوار وطني , فرضته ثورة شعبية , ثورة ترى الجميع شركاء في عملية التغيير , تسامحت مع أدوات الماضي بشرط تفكيك المنظومة المعيقة للتغيير , والقبول بتحول سياسي يحدث تغيير الكل فيه شركاء محكومون بوثيقة التوافقات ومسودة الدستور .
لم يكن في الحسبان , ان تنهار المؤسسات , وان تجد المشاريع القديمة فرصتها لتعود للواجهة , كان كل شي مخطط له من قبل أعداء التغيير وحلفائهم في المنطقة والعالم , المرعوبين من يمن متعافي مستقر , ينهض ليواكب العالم المتطور , خوفا من نهضة مارد يملك كل مقومات تلك النهضة , مقومات جغرافية وحضارية وثقافية وسياسية واقتصادية , وخوفا ان تتساقط كل تلك النهضة الكرتونية التي صنعها المستعمر , لتبقى خنجر في خاصرة الامة .
هذا الخنجر المسموم الملطخ بدماء الأبرياء من ضحايا الإرهاب والغلو والتطرف , ومحاربة الجمهورية والديمقراطية والوحدة في اليمن , خنجر ماجور لنحر أي مشروع حق وليد في اليمن يرتقي بها وينهض بها لتواكب العصر .
مثل ما كان هذا الخنجر إرهابيا , اليوم هو خنجر باسم محاربة الإرهاب , يشكل له غمدا من تناقضات الماضي , ويستدعي كل المثخنين بثارات ذلك الماضي , ويحركها لانهاك هذا المارد , ثم يُمتشق من الغمد ليقسم جغرافيا المارد وفق ما يشتهيه الوزان , ويعود ليحتمي في غمده القذر , من كيانات ملطخة بقذارة الماضي وعشق المال , تلك الكيانات بعضها مثخنة بالثأر والكراهية , والبعض الاخر وقع ضحية حاجته للمال , وتم توظيف كل تلك الحاجات والنعرات , لتعطيل ما يمكن تعطيله , واليوم تقسيم ما يمكن تقسيمه , واستقطاع ما يمكن اقتطاعه .
فلا غرابة ان تظهر اصوات من ابناء البلد تبرر إهانة واذلال البلد , بل تبرر ان تستباح سيادة البلد وارضه ويمكن عرضه , أدوات قبلت التوظيف وقيدت بأغلال لا يعلم بها إلا الله , وهي اليوم في صف العدو , كان إيراني او خليجي , فاليمن تعرف أعداءها التاريخين من اصدقائها , وتعرف أيضا ان المنظومة الرجعية لا يمكن ان تسمح بالحرية والديمقراطية , وان اليمن مقبرة الغزاة , تمرض لكنها لا تموت , تتعرض للمؤامرات والدسائس , لكنها لا تستسلم , يحاول حقراء وانذال العرب ان يؤذيها من خلال التوظيف السلبي لكل تناقضاتها الداخلية , لكنهم سيفشلون , وسينتصر مارد اليمن كما انتصرت على مر التاريخ قبل ان تظهر تلك الأنظمة على أرض الوجود .