فنانة يمنية تشكّل بالخيط والصوف ثقافات العالم
منذ طفولتها والفن يعيش معها، فيما تواصل حتى اليوم صنع الجمال وخلق الإبداع، رغم الواقع البائس الذي يعيشه بلدها اليمن جراء الحرب.
هكذا تبدو حياة الفنانة اليمنية الشابة انتصار الآنسي (26 عاما)، التي شقت طريقها الفني بشكل مختلف تماما عن بقية الفنانين التشكيليين والفنانات التشكيليات، وذلك عن طريق رسم لوحات جمالية متنوعة بالخيط أو الصوف.
وعن هوايتها تقول الفنانة اليمنية “كان الرسم بالنسبة لي هواية أمارسها في بعض الأحيان، لم أكن ملتزمة بالرسم تماما. لكن بين كل فترة وأخرى كنت أجرّب الرسم بطرق جديدة وتقنيات مختلفة”.
وبعد أن وصلت الآنسي إلى سن الجامعة درست تقنية المعلومات، بحجة أن المجال هذا مطلوب بكثرة في سوق العمل، لكنها لم تحب تخصّصها هذا كثيرا، وعنه تقول “كان هذا التخصّص عمليا جدا، بينما كنت ولا زلت ميّالة للفن والإبداع؛ وبعد أن أنهيت دراسة دبلوم تقنية المعلومات تأكّدت أنه لا بد أن يختار الشخص تخصّصه وفقا لميوله وهوايته وليس وفقا لمتطلبات سوق العمل”.
وتابعت “حينها قرّرت أن أنسب مجالا لي هو تصميم الجرافيكس، لأن فيه الرسم والتصميم والإبداع وكل الأشياء التي أنا شغوفة بها، وفعلا كان هذا أفضل قرار اتخذته، ساعتها تعلّمت معنى أن تدرس بحب وليس كإسقاط واجب”.
وتقول الآنسي “منذ ذلك الوقت بدأ التزامي الحقيقي بالفن والرسم والتعلم الجدي والتطوّر فيه، وأخذت شهادة البكالوريوس في التصميم بمعدل ممتاز جدا من الجامعة اللبنانية في صنعاء العام الماضي”.
ومنذ سنوات تشعر الفنانة اليمنية بشغفها وانبهارها بتنوّع الأشكال والأعراق والجمال حول العالم، واختلاف ألوان البشرة والعيون والملامح لدى سكان الكرة الأرضية.
وتقول “كان ذلك يدهشني دائما، كيف أننا خلقنا جميعا من أب واحد وأم واحدة (في إشارة إلى آدم وحواء) ورغم ذلك اختلفت أشكالنا جدا وتنوّعت، وقد تستطيع أن تعرف لأي عرق تنتمي أي جماعة من النظر لمعالم وجوه أفرادها”.
وتابعت “مثلما أشكالنا متميزة، حضاراتنا أيضا مختلفة عن بعضنا، وأيضا من خلال ملابس الأشخاص التقليدية وأكلهم وموسيقاهم تستطيع تخيّل شكل ملامحهم”.
وأردفت “هكذا قرّرت أن أبحث في الحضارات وتنوّعها وأن أقدّمها في لوحاتي الفنية بطريقة مختلفة”.
ونظرا لأن الحضارة شيء مميز وفريد، رغبت الفنانة الشابة أن تقدّمها فنيا بطريقة فريدة عن الرسم التقليدي بالألوان والفرشاة، وفكّرت كثيرا بماهية العامل المشترك بين كل هذه الحضارات، “والذي لا توجد حضارة تخلو منه، حينها أيقنت أن أبسط عامل يربط بيننا هو الخيط”.
وتواصل “بهذه البساطة، الخيوط تصنع حضارات، فقرّرت أن أرسم اللوحات بالخيط وطرزهم على قماش التل الذي يعطي شفافية للوحة وكأن الرسومات تطفو لوحدها في الهواء”.
وميّزت الفنانة كل حضارة عن الأخرى عن طريق اللبس التقليدي للنساء دون وجه، لأنها مقتنعة بأنها لا تحتاج إلى رؤية الوجه، فبمجرد رؤية ملابس أي حضارة تتشكل في عقلها الملامح التي تميزها تلقائيا.
رسمت لوحات متعددة بالخيط، حاولت التنويع فيها، فجالت افتراضيا في الكرة الأرضية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، واختارت حضارات مختلفة بأعراق متعدّدة ومناطق جغرافية مختلفة.
وقد كانت أول لوحة لها من الحضارة الكورية القديمة التي تراها حضارة غنية بتاريخها وحاضرها، ولم تود اختزالها في لوحة، فاختارت كوريا لتمثل الحضارات الشرق آسيوية لأنها تقريبا متشابهة.
بعدها انتقلت إلى أفريقيا، وعن هذه التجربة تقول “بعد الغنى في التفاصيل والتعتيق والنقش والفخامة في حضارة كوريا، ذهبت إلى أفريقيا أرض الألوان المنعشة والحيوية والتفاصيل البسيطة والأقمشة الخفيفة”.
كما ذهبت في رحلتها الفنية بالخيط إلى الأميركتين وحضارة الهنود الحمر ثم إلى روسيا وعادت إلى المكسيك؛ وبعدها لبنان.
وتتابع “عدت برحلتي إلى أرض الحضارات، أرض الجنتين المليئة بالأشياء المذهلة والتنوّع العجيب، هي أرض اليمن، واخترت الستارة الصنعانية (لباس تقليدي نسوي) بتفاصيلها الجميلة لأقدّمها نيابة عن بقية الأزياء اليمنية”.
وبالنسبة لأبرز حضارة تلفت انتباهها، تُؤكّد “هناك صعوبة في اختيار واحدة بعينها، لو اخترت حضارة بلدي أكون متحيزة لأن كل حضارة فيها من التميز والجمال ما يجعلني أتمنى لو كنت خيطا من خيوطها”.
وتفيد الآنسي أنها بدأت مشروعها الفني الجمالي الخاص بالحضارات دون أن تكون لديها أي فكرة عن هذا النوع من الفنون، موضحة “كانت شبكة الإنترنت شحيحة جدا بالمعلومات حتى عن طريقة التطريز على التل، ناهيك عن قرار رسم صورة تدل على كل حضارة بتفاصيلها”.
وتضيف “حينها فكّرت وارتجلت وحاولت، ومع المحاولة تعلمت تقسيم وقتي بين التصميم للوحات والتطريز وتصوير فيديو عن المشروع وعمل بوسترات، وتقريبا كل لوحة كانت تحتاج في حدود الأسبوعين من العمل المتواصل ليلا ونهارا، ما عدا أوقات النوم والأكل”.
وفي بلد يعاني كثيرا من ضعف الخدمات الأساسية، تصبح مهمة تنفيذ أي مشروع بالغة التعقيد، لكن مع الإصرار تنجح الأعمال.
وتشرح الفنانة العوائق التي واجهتها، قائلة “أول معوق كان عدم معرفتي بهذا الفن وقلة المعلومات عنه، وحتى إذا تحصلت على معلومات فلا يوجد وقت لأتعلمها كاملة، ومن واجبي أن أبحث وأتعمّق في كل حضارة لأفرّق بينها وبين غيرها، وأتأكّد هل هذا اللباس ينتمي إلى هذه الحضارة أم لا؟ وفي أيام تنفيذ هذا المشروع الفني انقطع الإنترنت انقطاعا شبه تام فكانت مشكلة كبيرة بالنسبة لي”.
وبسبب الحرب والحصار، باتت المواد التي تحتاجها الفنانة اليمنية للرسم شبه معدومة، فتستخدم أبسط الأشياء كي تُغطي النقص. وتشير إلى أنه بين كل فترة وأخرى تقل في الأسواق اليمنية أساسيات الرسم “والمواد التي يستخدمها العالم تصبح لدينا مجرّد خيال”.
ورغم العوائق التي تواجه حياتها إلاّ أن لدى الآنسي مشاريع فنية مستقبلية سواء على مستوى التصميم أو الرسم، وعنها تقول “أحب أن أصل إلى مستويات عالمية؛ وأقدّم فني بكل ثقة، وأن أنافس به على مستوى العالم، ولهذا أحاول في كل يوم أن أطوّر نفسي وأبحث أكثر وأكثر”.
وتؤكّد “أتمنى أن يأتي اليوم الذي أقدر أن أوصل فيه حضارة اليمن بصورة جديدة ومبتكرة تروي للعالم كيف أن في هذا البلد كنوزا مبهرة تستحق أن يحافظ العالم كله عليها، وأن هناك فنانين مبدعين يعرفون قيمتها ويسعون للتعريف بها دوليا”.
وحول تأثيرات الحرب على الواقع الفني في اليمن تشير الآنسي إلى أن “هناك تأثيرات إيجابية وأخرى سلبية، فالتأثير الإيجابي أنه يولد من رحم المعاناة الإبداع، ومن منطلق الحاجة يولد الابتكار، وحينما تتراجع للحضيض لن يكون لديك خيار سوى الاجتهاد من أجل التطوير. هناك شبان وشابات كثيرون أبدعوا وأبهروا رغم الظروف السيئة، وأصبح الفنان قادرا على أن يقدم فنه في أسوأ الظروف؛ فما بالك في الرخاء“.
وتوضّح أن هناك تأثيرات سلبية تكسر ظهور الفنانين بالبلد “فحينما تعيش في بلد بالكاد يجد أفراده لقمة العيش، يصبح الفن رفاهية لا داعي لها، وإذا ثمة شخص يعيش حياته لأجل الفن، قد لا يلقى ما يكسب فيه رزقه وعيشه، ولن يكسب مالا عن طريق اللوحات.
المصدر: د ب أ