المتتبع لمسار العملية التعليمية في اليمن – في الفترة الراهنة – سيتأكد له أن الظروف والعوامل تتحد وتتظافر ضدها بشكل سيء، وتدعم تعثر مصير التعليم برمته. المتتبع لمسار العملية التعليمية في اليمن – في الفترة الراهنة – سيتأكد له أن الظروف والعوامل تتحد وتتظافر ضدها بشكل سيء، وتدعم تعثر مصير التعليم برمته.
إن تراجع وضعف مستوى التعليم في اليمن وتدنيه، لم يشفع له من عمليات التجريف والاستلاب التي طالته وشوهته واضرت به، في بعض المناطق والمحافظات الخاضعة لسيطرة بعض الجماعات المسلحة التي عمدت إلى الإخلال بمضامينه المنهجية، وتحريفها، وقامت بإعادة توجيهه طبقا لما يتناسب مع مشاريعها السياسية والطائفية.
ومع كل ذلك فأن الانصراف عن ارتياد المحاضن التعليمية يأت بمثابة القشة التي قصمت ظهر التعليم!!
أفزعني أحد الأقارب قبل أيام عندما أخبرني أن عدد زملائه الذين يحضرون معه في فصله الدراسي منذ بداية العام الدراسي الجديد وحتى تلك اللحظة، لا يتجاوز عددهم خمسة طلاب، خلاف العام السابق الذي قدر حضورهم في سائر الأيام العادية بما لا يقل عن 60 طالباً.
وعند سؤاله عن سبب حالة العزوف شبه الجماعية عن الدراسة، قال إن معظمهم اختاروا التهافت على التجنيد، والالتحاق بصفوف الجيش أو الفصائل المسلحة الأخرى، على التسجيل في المدرسة والالتحاق بها.
استعلمته عن بقية الصفوف الدراسية وأكد لي أن الوضع لا يختلف كثيرا – على وجه التحديد – “صفوف المرحلة الثانوية” مع مراعات التفاوت النسبي من حيث الأعداد.
ما عزز من صحة ما تكلم به هذا القريب وزاد من يقينيته، لقاء جمعني قبل فترة ليست بالبعيدة، بأحد أبناء منطقتنا، وكان برفقته أبنه ذو الـ12 ربيعا. بدأ واضحا من رأس ابنه الحليق وملامحه الضامرة والمتعبة التحاقه بصفوف الجيش، وعند حديثي مع والده عن خطورة ترك ابنه للمدرسة وتجنيده وهو لايزال بهذه السن الصغيرة، وتشديدي على أن الضرورة الملزمة تقضي بأن يكمل أبنه تعليمه بدلا عن “العسكرة”، أبدى الأب سخريته الفظة من حديثي، وصعقني عند قوله إن فرص مستقبل التعليم في اليمن تعيش حالة من التضاؤل المميت، جازماً أن العسكرية هي الحل الضامن لمستقبل ابنه وبقية أقرانه.
مع استمرار حالة الحرب والنزاعات المسلحة التي يعيشها البلد والحالة الضبابية التي تسيطر على مستقبله، فأن الاعتقاد بعدم جدوى الدراسة والتعليم ككل في تنامي بشكل مطرد ومخيف، لتتضاعف نتيجة لذلك أعداد المنخرطين في صفوف الجيش والفصائل والجماعات المسلحة الأخرى، متخلين في نفس الوقت عن مدارسهم وحقائب أحلامهم وكراسات وأقلام مستقبل واعد قد ينتظرهم وبلد يعول عليهم في تغيير قدره ووضعه المتردي والمأسوي، والنهوض به، ولن يتأتى ذلك إلا بجيل مؤمن بضرورة التعليم وقيمته، وقدسيته.
في ظل عمليات تسريح الطلاب من مدارسهم، والدفع بهم إلى ميادين العسكرة بمختلف تسمياتها وتوجهاتها، والزج بهم إلى ساحات القتال تحت رايات وشعارات مختلفة، وأمام هذه الفوضى العظيمة والمتفاقمة والمتداخلة، وما يتمخض عنها من كوارث مؤجلة، والتي لن نلتمس ضررها وتأثيرها البالغ إلا في المراحل القادمة، فأن الانحياز لصالح التعليم والمدرسة والقلم والكراسة والطالب، والوقوف إلى جانبهم بحياد مطلق والتضامن معهم، ضرورة ملحة، وواجب اخلاقي وإنساني بحت ضد كل من يحاول أن يضطهدهم ويستغلهم ويمارس الإجحاف بحقهم، ويجعل منهم وقودا وقربانا لمشاريعه أيا كانت!
ولئن الأسرة أو المجتمع لا تتوفر لديهم القدرة الكافية لوقف الحرب وإنهائها، إلا أنهم يمتلكون القدرة الكافية في الحفاظ على أبنائهم وحثهم على مواصلة الدراسة بدلا عن دفعهم إلى ميادين ليست ميادينهم، وساحات ليست ساحاتهم؛ لقاء ثمن بخس وزهيد.
وعلى الشق الآخر لا بد من حملات توعوية تهتم بدحض أي اعتقاد خاطئ بعدم جدوى التعليم وأهميته، والانبراء للتصدي للخطاب الذي ينتقص من التعليم ويحط من قيمته وأهميته بذرائع وحجج مريضة، ويبرر لسحب الطلاب من مدارسهم وتركها، والدفع بهم نحو “العسكرية والملشنة”.
ستتوقف هذه الحرب عاجلا أم آجلا، لكن عمليات التجهيل والملشنة والعسكرة التي تسعى لمحو أي ارتباط بين الطالب ومدرسته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لن تتوقف نتائجها على البلد والمجتمع وستكون مريرة وقاتلة.