أمي وأمهات ضحايا
في كل عيد ام، أتذكر امي، التي قتلتها الحروب على عدن كمدا، امي وذكريات ابي يوم 13 يناير المشئوم، حين طلبت مني ان اذهب للاطمئنان على ابي، وهو في العمل يحرس خزنة شركة التجارة قسم الناقلات في الشارع الرئيسي في المعلى، صادف ان باب المكتب كان مفتوحا، ودخلت على منظر شنيع، لابي وهو في ركن المكتب منكفئ مرعوب، وامامه قتيلان، حاولت ان أساعده على النهوض، واهدئ من روعته، وامسح العرق من على جبينه، ثم اسالته من هولا؟
قال وهو يرتجف رعب، اقتحما المكتب وطاردهم مسلح وقتلهم، ثم وجه الى صدري البندقية، وكاد يقتلني، في اللحظة الأخيرة سمع نداء رفيقه وذهب، ومن حينها يا ولدي قدامي لا تقوى على النهوض بي، خذني للمنزل، مثال قال (اغلق المكتب واتصل بالمدير ), حملته على ظهري للمنزل القريب من المكتب الذي اغلقناه واتصلت بالمدير، لأخلي مسئولية والدي بالخزنة التي كانت تمتلئ بالنقود، وتلك الحرب رغم بشاعتها الا انها كانت حرب أهلية بين اطراف ونفوذ السلطة، لم يتم المساس بالمؤسسات والمال العام، بعد الحرب عاد كل شي كما هو، لم يتغير غير السلطة والنفوذ، وبروز عدو جديد بمسمى اليسار الانتهازي، لنعود لحكاية والدي .
ما ان دخلت لمنزلنا، استقبلتنا امي بالبكاء من منظر والدي وهو محمول ومرعوب، كانت صدمتها الأولى، وبداية لمشوار عسير مع مرض المرارة، ووالدي كانت صدمته اكبر، لم يعيش بعدها غير خمسة أشهر، و رحمه الله من عذاب الضغط والقلب وتفجر مرض في الرئتين، ثم توفى، وكانت الصدمة الثانية لامي.
وعاشت امي بقية حياتها بين المستشفيات وسرير البيت، حتى تفجر حرب 1994م الكارثة التي حلت على عدن، وكانت امي قلقه على اخي الأصغر، شغلتنا في السؤال عنه، ورؤيته بجانبها، لا تريد ان تفارقه، حتى وصل خبر استشهاد عدد من زملاء اخي، واصرت على رؤيته، وعندما تعثر البحث عنه، ساءت حالتها ونقلها لمستشفى الجمهورية، حضر اخي وهو سليم معافى لكنه متأخر، فقد انفجرت مرارتها، و رحمها الله من الخوف والرعب على أبنائها وخاصة على الصغير منهم الأكثر حماس وتهور.
هذا مصير امي، قتلتها الحروب الأهلية كمدا ورعب وفزع على أسرتها، فكيف حال أمهات التي فقدت فلذات الآكباد الضحايا والشهداء، ضحايا وشهداء الصراعات والحروب العبثية التي تمتد الى هذه اللحظة بمسميات عدة، حروب لم تنجز غير مزيد من الموت والتراكمات، وتصنع نفوذه وأدواتها الأكثر وحشية من ذي قبل، حروب لازالت نارها تلتهم اخيار المجتمع، من شباب وجدوا أنفسهم وقود لتلك الحروب والصراعات، تلتهمهم تحت شعارات رنانة توصي بالدفاع عن الوطن والقضية، والوطن والقضية الوطنية بريئة من كل ذلك، كم من شهيد حمل السلاح وهو يحمل قضية عادلة، ضد أعداء الإنسانية والوطن والعدالة، مات شهيدا ولم تجد أسرته رعاية إنسانية، ولا وطن يحميها، ولا عدالة تنصفها، ومات وترك أسرته تموت جوعا وشغفا وقهرا، وآخر جريح فقد جزءا عزيزا من جسده، وفقد أيضا حقه بالعلاج وراتب محترم يعيل اسرته.
من المستفيد من كل هذه الحروب التي يقطف ثمارها تجارها ومروجيها، بدعم اسر الشهداء، ودعم المعركة، ومحاربة الإرهاب، وتقديم المعونات، ودعم اللاجئين واللجوء، وغيرها من مسميات دعم الحرب التي يستفيد منها أدوات الحرب وتجارها، هم اليوم من تحسنت احوالهم المادية والمعيشية، في وقت يجوع المواطن، هم من يكنزون الأموال والثروات، في وقت الناس تبحث عن راتب شهري يعينها على بقاء أسرتها احياء يأكلون ويشربون فقط، هم من يبنون اليوم القصور والفلل والعمارات، من دماء الشهداء، وأشلاء الضحايا، لديهم فائض مال من خصومات رواتب الجنود، بل من عدد مهول من الجنود الوهميين.
مات الشهيد و جرح الجريح، ودمرت الدولة ومؤسساتها، فقد الناس حقهم بالحياة والكرامة، وفقد الوطن السيادة والإرادة، ولم تحقق الحرب أيا من شعارتها البراقة لم تحقق أي مبرر من مبرراتها، لم تقترب لترسيخ فكرة أو قيمة من تطلعات الناس وشغفهم بالتغيير، ودولة محترمة تحترم البشر و آدميتهم، بينما العالم يتطور اليوم،ويناضل عن حق الحيوان، الحق الذي يفتقده الإنسان في بلدي اليمن.