أزمة الفكر الزيدي في اليمن (2/1)
مع ترسخ الإيمان بقيم الديمقراطية والحرية والمواطنة المتساوية والتي صارت ركائز مهمة لاستقرار أي مجتمع وتعايشه ومن ثم تنميته، وصار أي إخلال بتلك القيم يعني دخول المجتمعات في صراعات لا تتوقف واستنزاف لا ينقطع، ولما كان الفكر الزيدي يقوم على فكرة الإمامة السياسية، والخروج والدعوة لها، وهذا الأفكار تتعارض مع قيم الدولة اليوم، وتتعارض وتتناقض مع قيم الإسلام في الشورى والعدالة والحرية والمساواة، فإن الفكر الزيدي اليوم بهذه التناقضات سيكون في مأزق لا يمكنه الخروج منه إلا بتجاوز تلك القضايا، كي يحقق التعايش في والاستقرار في المجتمع، إذ لا يمكن مطلقاً أن يطبق تلك الأفكار في زمننا المعاصر، حتى لو ظن أنه قادر على ذلك في لحظة زمنية طارئة تهيأت له فيها ظروف تناقضات المنطقة، لكنه لم ولن يستقر، وبناء على ذلك فإن تجاوز تلك الأفكار صار ضرورة لمعتنقيه، وحتى لا تتسع المأساة وترتفع فاتورة الدماء اليمنية، فإن بإمكانه تجاوزها عبر تجديد المذهب من داخله، وتجاوز تلك الأوهام التي لا أساس لها.. ولكن هل بالإمكان ذلك؟
بالعودة إلى قراءة آراء مؤسس المذهب زيد بن علي ، وفهم أفكاره في ضوء سياقاتها التاريخية، والابتعاد عن الانحرافات التي جاءت بعده، يمكن تجاوز تلك الأزمة، ومن أهم ما يمكن العودة إليه عند مؤسس المذهب هو رأيه في الوصية بالإمامة لعلي، ورأيه في التوريث، ورأيه في الدعوة والخروج، فالأولى والثانية لم تثبتا عنه، أما الخروج والدعوة فيمكن فهمها في ضوء سياقاتها التاريخية، ثم تعاد صياغتها بما يناسب اليوم، كما كثير من الأفكار التي أعيد صياغتها عند جميع المذاهب.
اشتهر الرأي عن الزيدية في الوصية أنها كانت بالوصف كما يرى ابن خلدون في مقدمته (1)) (، خلافاً للإمامية التي ترى الوصية بالاسم، وهذا هو الرأي الذي تولد منه مفهوم الإمامة في الذرية، مع أن هذا الرأي ب(أي الوصية بالوصف) لم يثبت عن زيد مطلقاً، وإنما قال به أبو الجارود من بعده!
بالتوقف عند ما كتبه أهم الباحثين في الفكر الزيدي في القرن العشرين، وعلى رأسهم الشيخ محمد أبوزهره صاحب كتاب “الإمام زيد” والدكتور أحمد محمود صبحي صاحب كتاب “الزيدية” نجد تحريراً لتلك المسألة استناداً لما قاله زيد، ونقله عنه بعض المؤرخين.
يقول الشهرستاني عن زيد بن علي ما نصه، “كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبكر لمصلحة رأوها”(2)) (، ومن هذا الكلام ومن عدم وجود أي نص يصرح فيه أو يشير إلى مسألة الوصية استنتج الشيخ أبو زهرة في كتابه “الإمام زيد” أن رأي زيد في المسألة هو: “إنه لم يكن نص على الخلافة لعلي، فلا وصية لعلي، ولا ما يشبه الوصية، وإن الأمر فيها قد ترك للمسلمين، وأنه يصرح بأن علياً أفضل من الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر الصحابة”(3)) (. وهو ما أكده أيضاً الدكتور أحمد صبحي في كتابه عن الزيدية فرأى أن الإمام زيدا لم يشر إلى فكرة النص من النبي على إمامة علي، وإنما ذهب إلى أن الأمة قد اختارت المفضول دون الأفضل لظروف راعوها”(4)) (، وهو ما رجحه الدكتور يحيى هاشم فرغل بقوله: “إنني أرجح أن القول بهذا القول الوصفي لم يكن مذهب الزيدية عامة، ولم يكن قولاً لزيد خاصة”(5)) (، وهو ما أشار إليه الدكتور علي سامي النشار إذ اعتبر أن القول بالنص الخفي هو أول اختلاف جوهري يقع بين آراء زيد بن علي والزيدية من بعده، وبين الشيعة على مختلف فرقها(6)) (.
ويتضح من هذه خلال ذلك أن الإمام زيدا كمؤسس للمذهب الزيدي لم يقل بالنص الخفي على إمامة علي لا بالوصف ولا بالاسم، إذن فمن أين جاء ذلك القول؟
يقول الدكتور مصطفى الشيبي –وهو إمامي معاصر- “أدخل أبو الجارود النص على إمامة علي على صورة مخففة هي النص بالوصف لا بالاسم”(7)) (. إذن فإن أبا الجارود (ت150هـ) وهو أحد المتشيعين لزيد -بعد أن كان إمامياً من قبل- هو من ابتدع ذلك القول بعد موت زيد بن علي، ثم أخذ به الجارودية من بعده، ولعل أبو الجارود بعد خروجه من مذهب الإمامية قد خفف ما كان يؤمن به من القول بالنص الجلي لعلي إلى رأي يقول بالنص الخفي، حتى يجعل لتشيعه مبرراً، وتتحدث كتب التاريخ الإمامي عن عودته مرة أخرى للتشيع الإمامي، وهو كما وصفه محدثو السنة كابن حبان ويحيى بن معين “كذاب يضع الأحاديث في فضائل أهل البيت”(8)) (، بل وحتى كتب الإمامية وصفته كذلك، فقد نقل الطوسي في كتب الإمامية أنهم وصفوه بالكذّاب المكذّب “كذاب يأتي فيخبرنا أنه يصدقنا وليس كذلك، ويسمع حديثنا فيكذب به”(9)) (.
قال نشوان بين سعيد الحميري (ت 573 هـ): “والزيدية على رأيه”، أي أن الزيدية الذين حكموا في اليمن كانوا على رأي أبي الجارود(10)) (، وكون الأئمة في اليمن يأخذون برأيه ولا يأخذون برأي زيد فهذا يعني أنها لاقت هوى عندهم، لأنها ستحصر الحكم فيهم، ومن ثم قاموا بترسيخها حتى لو لم يقل بها مؤسس المذهب ذاته، وإنما قالها رجل من بعده حوله شبهات كثيرة.
أما مسألة التوريث فقد أكد أبو زهرة بناء على رفض زيد لفكرة الوصية بالخلافة فـ “إن الأمر فيها قد ترك للمسلمين، وأنه لهذا ليست الخلافة عن النبي أمراً ثبت بالوراثة، وإنما هو أمر ثبت بالاختيار”(11)) ( ابو زهرة ويقول عن زيد “أنه صرح بأفضلية علي لمناقبه لا لقرابته، ولكن الأفضلية ليست ملازمة للخلافة، وإنما الأصلح هو الأولى، وهذا يتفق مع نظم الشورى”(12)) (. ابو زهرة، وما دام قد قرر أن الخلافة كانت بالمصلحة ولم يقل بالوصية فإن نسبة أي قول له بالتوريث ستكون مناقضة ولا أساس لها، إذ يقتضي منها أن يرفض خلافة أبي بكر ولم يرد عنه مطلقاً أنه رفضها بل ورد عنه أنه رفض من يرفضها.
ثم إن فكرة التوريث تتناقض مع فكرة الدعوة والخروج التي قال بها زيد، لأنه لا داعي للدعوة والخروج إن كان الأمر سيئول بالتوريث، يقول أبو زهرة: “وما دام أنه اعتبر الخلافة حكما صالحا يختار أصلح الناس له، ولم يعتبر الوراثة، لأن الخلافة إن كانت بالوراثة المجردة، أو بالإيصاء الذي هو في معنى التوريث جاءت الخلافة من غير دعوة، كما تئول الملكية بالوراثة أو بالإيصاء من غير طلب، فهي تجي بالأيلولة لا الطلب، فزيد برفضه نظرية الوراثة في الخلافة قد أوجب إظهار الفاضل وإعلانه لينظر الناس في مدى المصلحة في توليه وللموازنة بينه وبين غيره في أيهما أصلح”(13)) (.
أما خروج زيد ضد الأمويين فيمكن قراءته في سياقاته التاريخية، حيث يرى أحمد صبحي أن الخروج والدعوة كان بسبب أنه خشي أن يكون في التقية إقرار لمبدأ الغلبة في الحكم، وإحياء لمبدأ الحسين بعدم إقرار الانحراف السياسي في وراثة الملك، واستنكارا لبدعة هرقلية وكسرية يراد دخولها المجتمع الإسلامي، ورفضاً للظلم وطغيان الظالمين(14)) (. وهذه هي مجمل الأهداف التي دفعت زيد للخروج على الأمويين، فإذا قرأناها كذلك بعيداً عن الوصية والتوريث فإنها قيم يمكن تطويرها في العصر الحديث، بالخروج السلمي في حالة انحراف السلطة عن الدستور، أو في حالة أي انقلاب على إرادة الشعب.
وأما الدعوة بحسب أبو زهره فإن زيداً كان يرى أن الإمام يختار من أهل الحل والعقد اختياراً، ويلاحظون في اختياره المصلحة، ولا يتم ذلك الاختيار إلا إذا أعلن مريد الخلافة إرادته وذلك بخروجه داعياً لنفسه، وحينها يختاره أهل الحل والعقد إن رأوا في ذلك مصلحة(15)) (، وهذا الفكرة يمكن أن تكون اليوم بإعلان نفسه مرشحاً للانتخابات ثم ينظر لاختيار الشعب قبلوه أم رفضوه.
هذه هي أساس الفكرة الزيدية كما أكدها الصاحب بن عباد (ت 385هـ) في كتابه الزيدية، بقوله: “أما الزيدية فكانت فكرة تقوم على إظهار مباينة الظالمين والتجرد لقصدهم ودفعهم، وليس الغرض بها تجييش الجيوش ومباشرة الحرب لأن ذلك مشروط بالتمكن والقدرة”(16)) (.
………………………………..
(1 ) مقدمة ابن خلدون 152.
( 2) الملل والنحل 1/155.
(3 ) الإمام زيد ص191.
(4 ) الزيدية ص104.
(5 ) نشأة الآراء والمذاهب والفرق الكلامية ص118.
(6 ) نشأة الفكر الفلسفي الإسلامي 2/130.
(7 ) الصلة بين التصوف والتشيع ص175.
( 8) المجروحين 1/384، كتاب التاريخ 2/180.
(9 ) رجال الكشي الشيخ الطوسي ص199.
( 10) انظر مطلع البدور ومجمع البحور، ابن أبي الرجال 2/ ترجمة 570.
(11 )الإمام زيد ص192.
(12 )الإمام زيد ص192.
( 13)الإمام زيد ص196.
(14 )الزيدية 56.
( 15)الإمام زيد ص196.
( 16)الزيدية للصاحب بن عباد ص245.