الاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران
كان لإدارة الرئيس باراك أوباما هدف أساسي في الشرق الأوسط: لم تكن تريد أن تصبح إيران قوة نووية. فهي لا تريد أن تجبر إسرائيل على توجيه ضربة استباقية ضد إيران نووية، بدافع التصريح العلني بنوايا إيران ضد إسرائيل. وكان حلفاء أمريكا في المنطقة – المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، من بين دول أخرى – خائفين من أن إيران النووية قد تجبرهم على وضع التبعية. وكانت إدارة أوباما، التي كرست نفسها لفك الارتباط العسكري عن المنطقة، تخشى أنه لتهدئة المخاوف الإقليمية، سيتعين على الولايات المتحدة القيام بعمل عسكري ضد القوة الإيرانية الناشئة، مع عواقب وخيمة.
وأعدت إدارة “أوباما” اتفاقية مع إيران توافق بموجبها إيران على وقف برنامج أسلحتها النووية مع السماح بمراقبة فنية دولية للبرنامج. وبموجب الاتفاق، كان من المقرر أن تظهر اتفاقيات أوسع تسمح لإيران بتطبيع علاقاتها مع العالم الخارجي وزيادة رفاهيتها الاقتصادية، في حال امتثالها لشروط الصفقة.
وتم انتقاد الاتفاقية في ذلك الوقت لثلاثة أسباب: أولاً، كان لدى إيران القدرة على السماح بعمليات التفتيش والتهرب منها في ذات الوقت، من خلال تغيير موقع البرنامج النووي، حيث تمتلك إيران العديد من الكهوف والأنفاق يمكنها إخفاء الأنشطة النووية. وتركز عمليات التفتيش على المنشآت المعروفة بسبب قلة المفتشين واتساع رقعة الدولة، بعبارة أخرى، بالرغم أن عمليات التفتيش تشكل ضمانة، لكن موثوقيتها غير مؤكدة.
ثانياً: لم يتطرق الاتفاق إلى علاقات طهران مع دول أخرى في المنطقة نفذت إيران ضدها عمليات سرية وعلنية، فلم يفرض الاتفاق قيودا على إيران في سوريا أو لبنان أو اليمن، ولم يفعل شيئًا حيال أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار وضرباتها ضد مصالح دول أخرى مثل الهجوم على “أرامكو” السعودية.
أخيرًا: لم يتطرق الاتفاق إلى برنامج إيران الصاروخي، الذي يبدو أنه يتضمن صواريخ ذات نطاقات وحمولات متعددة. ويثير بناء إيران صواريخ متوسطة المدى ذات قدرة نووية، شكوكا كثيرة، فإذا كانت إيران عازمة على التخلي عن برنامجها النووي، فلماذا تنفق من مواردها الشحيحة على هذه الأنواع من الصواريخ؟
كان موقف إدارة “أوباما” هو أن كل هذه القضايا مهمة، لكن التوصل إلى تفاهم طويل الأمد مع إيران يتطلب نهجًا تدريجيًا. وإذا سعت الولايات المتحدة إلى كل شيء دفعة واحدة، فلن تحقق شيئًا، وكان الهدف استخدام الحوافز الاقتصادية لدفع إيران إلى الأمام.
وقال منتقدوه إن النهج الصبور ترك الباب مفتوحا أمام عمليات هجومية خطيرة، وإن حماية الاتفاقية ستصبح هدفا سياسيا يجعل الولايات المتحدة تتغاضى عن الانتهاكات بحق المصالح الأمريكية على أمل الحفاظ على الاتفاق.
وكان أحد عناصر الحملة الانتخابية لـ”دونالد ترامب” معارضة الاتفاق النووي، حيث أكد أن الصفقة لابد أن تتجاوز الأسلحة النووية إلى الصواريخ، وبدلاً من استخدام حافز العلاقات الاقتصادية، فرض عقوبات كبيرة على إيران وجعل إزالتها حافزًا. بعبارة أخرى، بينما لم يسع “أوباما” إلى إضعاف إيران اقتصاديًا ولكن ركز كليًا على القضية المطروحة، اختار “ترامب” إضعاف إيران اقتصاديًا من أجل توسيع أهداف الاتفاقية لتشمل الصواريخ.
سعى “ترامب” أيضًا إلى تقليل العمليات الخارجية لإيران، أو على الأقل زيادة التكلفة عليها، من خلال العمل المنظم مع دول أخرى بدءًا من إسرائيل والإمارات بهدف عزل إيران والحد من قدرتها على اللعب، وبنهاية فترة إدارة ترامب” تغيرت خريطة المنطقة ومعها تغير موقف إيران.
كان اقتصاد إيران في حالة انحدار حاد، وتوطد عداء العالم العربي لطهران، وكان الافتراض أن العمليات السياسية والعسكرية الإيرانية في العالم العربي ستنخفض مع التحالفات والتكاليف الاقتصادية على إيران، وهو أمر لم يثبت الواقع صحته حتى الآن. ومع ذلك فإن الضعف الاقتصادي والاضطراب السياسي في إيران واضحان.
عارض “جو بايدن” سياسة “ترامب” تجاه إيران بنفس القدر الذي عارض به “ترامب” سياسة “أوباما”، ويشير ذلك إلى بعد سياسي في الأمر، حيث اعتبر “ترامب” سياسته ضد إيران فرصة لمهاجمة مواقف “أوباما”، وبالمثل، في حين أننا لا نملك إحساسًا واضحًا باستراتيجية “بايدن” تجاه إيران، لكن لديه دافعا سياسيًا لرفض سياسة “ترامب”.
ويعتبر الشرق الأوسط في الوقت الحالي مكانا مختلفا بشكل جذريً عما كان عليه وقت قرارات “أوباما” أو “ترامب”.
فقد كان التحالف الذي تم تشكيله ضد إيران يتمتع بمصادقة أمريكية، حتى لو كانت آليات العمل في الأساس في أيدي القوى الإقليمية، ولكن الآن يجب على “بايدن” أن يأخذ في الاعتبار التحالف الإقليمي الذي تشكل بناء على موجة الاعتراف بإسرائيل (بما في ذلك البحرين والإمارات)، ويشمل هذا التحالف دولا لم تعترف رسميًا بإسرائيل مثل السعودية.
تخشى إسرائيل أسلحة إيران النووية، ويخشى السعوديون الطائرات بدون طيار الإيرانية ووكلاء إيران في اليمن.
وتكمن المشكلة في أن العودة إلى استراتيجية “أوباما”، مع تخفيف العقوبات، ستؤدي إلى إنعاش الاقتصاد الإيراني بسرعة، وتقوية المتشددين الإيرانيين الذين رفضوا الانصياع لسياسة “ترامب”، ومن ثم سيتم تبرئتهم، وخلق أزمة هائلة في الشرق الأوسط.
هناك من يقول إن اتفاقيات “إبراهيم” هي “بيت من ورق” لا يمكن أن يتماسك، وربما يكون ذلك صحيحا، لكنها موجودة الآن، وهي موجودة بسبب إيران، وسيتم قراءة التحول في سياسة الولايات المتحدة بشأن العقوبات باعتباره انتقالا لواشنطن إلى موقف مؤيد لإيران، وهي وجهة نظر قد لا تكون صحيحة ولكنها ستبدو كذلك.
وستعتبر إسرائيل ذلك خطأ، وستجادل الإمارات وبقية العالم السني بأنه مهما كانت نية إدارة “بايدن”، فإن الحقيقة هي أن سياستها تقوي إيران، ونتيجة لذلك، فإن الحلف المعادي لإيران الذي يُنظر إليه على أنه أمريكي في جذوره سوف يتفتت في الواقع، وفي الشرق الأوسط المتشظي، سيلوح شبح الحرب مجددا.
وإذا توصلت إسرائيل إلى استنتاج مفاده أن التطبيع ليس له أهمية، فسترى أن إدارة التهديد الإيراني هي مشكلة إسرائيلية فقط، ولا يمكن لإسرائيل من الناحية الاستراتيجية أن تسمح لهذا التهديد بالتطور، وسيتعين على السعوديين، الذين يواجهون الإيرانيين بطرق عديدة، والذين يتم مساءلتهم من قبل إدارة “بايدن” بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، اختيار اتجاه جديد، وليس من المصلحة الأمريكية أن يبدأ الحلفاء في اختيار اتجاهات جديدة.
في الوقت الحالي، تبدو المنطقة آمنة نسبيًا، ولكن إذا تم إخراج إيران من صندوقها دون تنازلات وضوابط كبيرة، فإن التوترات ستتفاقم وستشتعل المنطقة بشكل كبير، وبالنظر إلى معارضة “بايدن” لمبدأ “أمريكا أولاً”، فإن عدم الاستقرار هناك سيجذب الولايات المتحدة إلى المنطقة ويعمق تورطها فيها.
على أي حال، إذا مضى “بايدن” قدما في محادثات جادة مع إيران، فإن بقية دول الشرق الأوسط ستكون خائفة للغاية، لا يتوافق الوفاق بين الولايات المتحدة وإيران مع تحالف أمريكي – إسرائيلي أو تحالف أمريكي-عربي.
ولكن قد يتحدث المرشحون الرئاسيون عن أشياء تصبح مستحيلة بعد الفوز فيقومون بتجاوزها عندما يصبحون في موقع المسؤولية رسميا، فالرؤساء ببساطة محاصرون بالواقع.
كان على الولايات المتحدة أن تسحب القوة العسكرية الرئيسية من المنطقة لأن التدخل الأولي فشل في تحقيق أهدافه، لكن لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون غير مبالية بالمنطقة لأنها جزء استراتيجي من أوراسيا، ويمكن للقوى العظمى الأخرى الاستفادة منها.
وعلى المدى الطويل، فإن التلاعب بالمنطقة لتحقيق أهداف أمريكية أسهل من إزاحة قوة كبرى أخرى، أو مواجهة ظهور قوة إقليمية تزعزع استقرار المنطقة، وبالرغم أن حديث الرؤساء يحمل دلائل ومؤشرات مهمة، لكن سياساتهم تُصاغ بالواقع، وليس العكس.
المصدر الرئيس