ما زلت أذكر ذلك اليوم الباريسي المشمس (28 كانون الأول / ديسمبر 2002) الذي قررت فيه أن أُبَدِّل المقهى، حيث اعتدتُ أن أتناول القهوة وأقرأ الصحف المتوفرة، وكانت مازالت سائدة بعد، حين رن هاتفي الجوال. قال صديقنا المشترك، جارالله عمر وأنا، بصوت حزين ومن دون التمهيد بالسلام: لقد اغتيل جارالله عمر بعد إلقاء كلمته في المؤتمر العام الثالث للتجمع اليمني للإصلاح!
حاولت أن أفهم أكثر، لكنه ما كان على علم بتفاصيل أخرى. سيخبرني من بعد، معارض شاهد عملية الاغتيال وحضر جلسة استجواب القاتل المصورة في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، أنه أجاب عن سؤال حول الدافع للقتل بقوله: “هو علماني كافر يجب أن يقتل”. وعلق المعارض قائلا: كان القاتل يشعر بالفخر ويتصرف بـ”استخفاف واستعلاء مذهل، وكأنه قتل طريدة لا قيمة لها”. وأكد أنه كان مصمما على قتل معارضين آخرين لو تمكن من ذلك.
كان لهذا الخبر وقع الصاعقة في نفسي، إلى حد أنني حجبت عقلي للحظة وظننت أن تغيير المقهى حمل إلي سوء الطالع عبر هذا الخبر الفظيع. استبد بي حزن عميق وأخذت أقلب صفحات ذاكرتي منذ عرفت جارالله في السنوات الأولى للوحدة، وصولا إلى حرب صيف العام 1994 وما بعد حتى اغتياله.
التقيت جارالله عمر في سنوات الوحدة اليمنية الأولى. كان طرفا أساسيا في الحزب الاشتراكي اليمني ويمثل التيار الشمالي في الحزب بل يتزعمه، وواكبتْ معرفتنا سيدة لبنانية هي زوجة دبلوماسي فرنسي مقيم في العاصمة اليمنية. كانت تستضيفنا معا عندما أزور اليمن، في منزلها التقليدي الجميل في “بستان السلطان” في صنعاء القديمة، وبخاصة عندما كان هذا القائد الاشتراكي اللطيف وزيرا للثقافة.
كان حريصا في تلك الفترة التي شهدت توترا شديدا بين الرئيس صالح ونائبه البيض، على تجنب القتال والحرب. كان يعتقد بأن المؤتمر الشعبي العام يريد الحرب لكي يستأثر بالسلطة. قلت له إن رئيس الجمهورية “يقول إنك لا تريد حل مشكلة التعايش بين الاشتراكي والمؤتمر في السلطة عبر توحيد الحزبين، وإن علي سالم البيض وافق على الدمج بينما أنت ترفضه بقوة”.
قال لي إنه يُصِرُّ بالفعل على عدم الدمج وعلى حل المشاكل بالمزيد من الديمقراطية والتعددية، لكنه يرى أن ما يعد لليمن أخطر من هذا بكثير، وقال محذرا: “أهل الجبال في الشمال أهلي. يراد عزلهم وتجويعهم وأنا أخاف عليهم من مصير قاتم، لكن حزب المؤتمر يتلهى بألعاب سياسية صغيرة”، سنعرف بعد 15 عاما معنى هذا القول، عندما طُرِحَ مشروع الأقاليم الستة وحُشِرَ “أهل الجبال” في إقليم “أزال” المقفل.
كنت في بداية الوحدة أعمل في مجلة “اليوم السابع” الفلسطينية الصادرة في باريس، وأتابع الملف اليمني عن كثب. واصلت العمل على هذا الملف عندما انتقلت إلى مجلة “الوسط” السعودية انطلاقا من مكتب باريس أيضا، وكان للمجلتين المحتجبتين على التوالي تأثير كبير في اليمن، استمر من العام 1985 وحتى العام 2002 تاريخ احتجاب “الوسط” واغتيال جارالله عمر.
جعلتني تلك السنوات الطويلة “خبيرا” في الشأن اليمني، فصار ما أقوله وما أكتبه يثير إعجاب المؤيدين وحنق وغضب وعدوانية الرافضين. بيد أن العدوانية ستتحول إلى تهديد بالقتل نقله لي رفيق لبناني، على إثر نشر جريدة “الحياة” اللندنية نصين لي حول “الأزمة اليمنية” عشية الحرب والانفصال، تمنيت فيهما الحفاظ على الوحدة وفشل الانفصال. ولعل مبادرة الحكومة اليمنية إلى إعادة طبع المقالين في كراس صغير وتوزيعه على المارة، أثار حفيظة الاشتراكيين ومن بينهم الراحل جارلله عمر، الذي رفض بدوره الحرب والانفصال من موقعه داخل الحزب الاشتراكي.
سيؤدي فشل المحاولة الانفصالية عام 1994 إلى فتح صفحة جديدة في علاقتي بجارالله عمر ومعظم قادة الحزب الاشتراكي، وأخص جارالله بالذكر لأنه حذّر من الحرب والانفصال معا، وهو ما حذرت منه تماما، وإن بلهجة اتهامية للانفصاليين.
في العام 1995 كنت في صنعاء، عندما طلب عضو في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي (ي.م.أ.أ) أن نلتقي في فندق “تاج سبأ”، حيث أقيم وهو رفيق مقرب من جارالله عمر. أخبرته خلال الحديث أنني سأذهب إلى القاهرة لحضور اجتماع التحرير السنوي لمجلة “الوسط” وجريدة “الحياة”، التي كانت تعقد اجتماعات سنوية دورية كل سنة في بلد عربي مختلف، وقد تقرر الاجتماع تلك السنة في القاهرة. وأشرت للقيادي الاشتراكي بأنني سأعمل على لقاء جارالله الذي لجأ إلى القاهرة خلال حرب العام 1994.
فطلب مني أن أنقل له رسالة من السفير الفرنسي، تدعوه للعودة إلى صنعاء وأن باريس حصلت على تعهد من السلطات اليمنية بألا يتم التعرض له، ناهيك عن أن الرئيس الراحل علي عبد صالح كان هو أيضا يلح على عودة قادة الاشتراكي من الخارج، بعد أن ربح الحرب وما عاد الحزب يملك ورقة القوة العسكرية التي تشكل تهديدا له ولحزب المؤتمر الشعبي العام.
التقيت جارالله في “الدقي” وهو من الأحياء الشعبية في القاهرة. كان يسكن في شقة شديدة التواضع لا تتعدى الغرفتين، ويجلس أرضا محاطا بأكوام من الصحف، وهو الذي كان وزيرا قبل عام فقط يضج موكبه بالمرافقين وبالسيارات الرسمية الفخمة. نقلت له رسالة رفيقه التي امتنعت عن الكشف عنها عبر الهاتف. بدا حذرا ومرتبكا، إذ كان يظن كما يظن كثيرون من رفاقه أن علاقتي الوثيقة بالرئيس الراحل علي عبدالله صالح لا تتحمل صلات موازية ومستقلة مع خصومه ومعارضيه وخاصة الاشتراكيين.
وأعترف هنا أنني فشلت في إقناع كثيرين بأن علاقتي برأس الدولة اليمنية كانت مهنية ومبنية على احترام متبادل، وأن هذه العلاقة كانت تسمح لي بتوقيع عريضة لإطلاق سراح عبد الكريم الخيواني المعارض الشرس للرئيس صالح، وإذ أطلق سراحه خاطبني الخيواني بالقول ممازحا: “بدلا من توقيع عريضة لإطلاق سراحي، لماذا لا تقنع صديقك بالامتناع عن سجن معارضيه؟”.
تكرر الأمر مع معارضين آخرين من بينهم الصديق الراديكالي محمد المقالح، الذي أدنت اختطافه عبر مقال نشرته في “صحيفة 26 سبتمبر” الأقرب إلى الرئيس صالح والناطقة باسم التوجيه المعنوي. وقد أثار غضب بعض من في السلطة حينذاك، فضلا عن إرسال برقية خاصة للرئيس من أجل الحفاظ على حياة المقالح، في وقت كانت الحكومة اليمنية تنفي علمها بالجهة الخاطفة.
وأذكر أنني أمضيت 3 سنوات ألح خلالها على الرئيس اليمني لإعادة منزل صودر لأحد الوزراء الاشتراكيين، وكان نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي لا يطيق سماع اسمه، وعندما أثمرت الاتصالات عن عودة المنزل إلى صاحبه، طلب مني مستشار الرئيس أن أنقل إليه الخبر السعيد، فقلت له أنا لست يمنيا، دع المعارض الفلاني وهو من منطقته يبشره بذلك، وهذا مفيد لكم وله، وهو ما تم بالفعل. وفي السياق، حرصت على إرجاع أوراق ووثائق شخصية صودرت من سفير اشتراكي سابق في باريس… إلخ. أكتفي هنا بهذه الإشارات، على أن أعود لهذا الجانب بالتفصيل خلال كتاب أعده عن تجربتي اليمنية.
في اليوم التالي من لقائنا المصري، طلب جارالله أن نتواصل ثانية في فندق “شيراتون الجزيرة”، حيث ينعقد مؤتمر التحرير السنوي لجريدة “الحياة ومجلة الوسط”، وقد فاجأني باصطحاب مجاهد القهالي المعارض الشمالي الشهير.
في الفندق، بدا جارالله مرتاحا أكثر وشكرني على الرسالة، وقال بأنه سيتوجه إلى صنعاء خلال الشهر المقبل، وتمنى علي أن أزوره في بيته في الحي السياسي، وهو ما تم بالفعل في العام 1996، وأرجو ألا أكون مخطئا، لأنه انتقل من بعد للسكن في المدينة الليبية.
في صنعاء، دعاني جارالله إلى الغداء في مخبازة الشيباني المجاورة للكميم (كنت أفضلها على مخبازة الشيباني الأخرى المحاذية لشركة الطيران القطرية)، وكان برفقته جندي نظامي للحراسة. سألته إن كان يشعر بالخطر على حياته، فقال إنه ما كف يوما عن الشعور بالخطر في كل العهود اليمنية شمالا وجنوبا، وذكر لي تفاصيل لم أكن أعرفها عن محاولات اغتيال طالت عددا من رفاقه في الحزب الاشتراكي في صنعاء.
سأعرف من بعد أن هذا الاشتراكي المضطرم جاور القتل والموت مرات عديدة، وتعرف في إحدى المرات إلى من كان سيقتله في أحداث كانون الثاني (يناير) 1986 في عدن وعفا عنه. وسأعرف من بعد أنه كتب وصيته بعد صدور حكم بإعدامه في صنعاء قبل الوحدة، ونقلت الشرطة الوصية إلى أهله لاعتمادها بعد تنفيذ الحكم.
شاءت الأقدار أن ألتقي الرئيس الراحل علي عبدالله صالح بعد ظهر اليوم نفسه، فسألني عن انطباعاتي بعد أيام من زيارتي للمدينة. حدثته عن لقائي مع جارالله وشعوره بالقلق على أمنه الشخصي، فابتسم وقال: “قل لجارالله: ما الذي سيفعله لك جندي واحد إذا ما تعرضت لمحاولة اغتيال؟ قل له: اطمئن وكن معارضا مدنيا مسالما، وحمايتك تقع على عاتق الدولة”.
فوجئ جارلله بكلام الرئيس ورد بالقول: أعرف تماما أن جنديا واحدا لن يتمكن من حمايتي إذا ما أرادت السلطة اغتيالي، لكن الجندي بالنسبة لي هو مجرد شخص يخبر أهلي ورفاقي بما جرى لي.
لا أعتقد أن معارضا يمكنه أن ينام قرير العين بعد هذا الحوار الذي سيؤدي فيما بعد إلى زيادة الثقة في علاقتي بجارلله عمر، الذي زارني في فندق تاج سبأ وأكد لي أنه يريد أن نفتح صفحة جديدة، وأن بوسعي أن أؤدي دورا مفيدا للوحدة اليمنية التي تتصدر اهتمامي في الملف اليمني، وأن هذا الدور سيكون مفيدا لليمنيين من كل الأطراف. فقلت له ألا يبالغ ورفاقه في دوري، فأنا أعمل في صحيفة معروفة الميول، وأنقل وجهات نظر جميع الأطراف، ناهيك عن أن مقالاتي عن اليمن لا تتعدى الـ 5 مقالات في العام الواحد، فرد بانفعال محبب وبمبالغة لطيفة؛ “إن كل ما يكتبه الآخرون طوال العام لا يعادل مقالا واحدا من مقالاتك عن اليمن. “ابتسمت تقديرا لذكائه، وقلت له: دعنا ننفذ ما ذكرت”.
اتفقنا على أن أعتمد أكثر على شكاوى وقضايا المعارضة، وأن أعبر عنها في الصحيفة وفي لقاءاتي مع رئيس الجمهورية والمؤتمر الشعبي العام. ومازلت أذكر حرصه الشديد على دعوتي إلى مقيل واحد على الأقل في أثناء كل زيارة أقوم بها لليمن. وأذكر أيضا أن المقيل كان يحضره ممثلون عن معظم أحزاب المعارضة. وسيستمر اتفاقي مع جارلله عمر وستزداد الثقة بيننا إلى حد أنه خلال إحدى زياراته إلى باريس، سهرنا حتى ساعة متاخرة من الليل واستضفته في جلستنا الأسبوعية في “نادي الصحافة العربية” في باريس، وكانت تلتئم في فندق هيلتون الواقع على مقربة من برج إيفل.
في تلك الزيارة، بدا ودودا إلى حد أنه طلب مساعدتي في سحب نقود من الصراف الآلي، وهو لا يجيد اللغة الفرنسية ولا الإنجليزية، وأعطاني الرقم السري لبطاقته ومن ثم ذهبنا رفقة زوجتي إلى “غاليري لافييت” لشراء هدية لزوجته وثيابا له، وإذ اتجهنا إلى جناح الرجال ضحك مليا ثم قال؛ إنه لن يجد ضالته إلا في جناح ثياب الأطفال، فهو كان، رحمه الله، نحيلا وقصير القامة. وتجولنا من بعد في شوارع العاصمة وكان حريصا على معرفة تفاصيل سيرتي السياسية قبل الصحافة وعلى مصادري النظرية، وأبدى إعجابه بكتابي “الجندي المستعرب” الذي صدر في تلك الفترة بطبعته الأولى.
ستتسع الصفحة الجديدة مع جارلله عمر إلى حد أنه قبل بالانضمام إلى مشروعي حول تقديم النخبة السياسية اليمنية في كتاب مستقل، يعكس صورة متعددة عن اليمن الموحد بأصوات مختلفة. وكان أن عقدنا جلسات طويلة مسجلة بواسطة الكاسيتات القديمة، بيد أن مشروع الكتاب تعثر من بعد إلى أن عثرت على تلك الأحاديث خلال إعادة تنظيم أرشيفي الشخصي في أثناء الحجر الصحي للوقاية من جائحة الكورونا.
في الحلقات التالية، حرصت على نشر ما يشبه مذكرات جارلله عمر الذي فاجأته رصاصات الغدر قبل أن يكتب تفاصيل حياته السياسية الغنية في شطري اليمن. سيجد القارئ المهتم في هذه المذكرات القسم الأكبر من يوميات جارالله عمر السياسية والاجتماعية والنضالية، فضلا عن حياته الشخصية والحزبية، وسيتعرف إلى آرائه في المسرح والسينما والأدب، وإلى نظرته الشخصية لزعماء اليمن وقادته، وتقديره لجورج حبش وامتعاضه من جورج حاوي، وسيكتشف أن جارالله وصل في مراجعته للتجربة اليمنية إلى حد تشبيه الإمام البدر بأحد أمراء “لاووس” الإصلاحيين، وسأترك له الحديث بوصفه شاهدا أساسيا على مرحلة مهمة من التجربة السياسية اليمنية الموحدة.
لن أتدخل في مرويات الراحل إلا في بعض الأماكن للشرح والتوضيح، وسيكون التدخل دائما بين قوسين، مع الإشارة إلى أن بعض ما رواه لي كان قد رواه لصديقته الباحثة الأمريكية ليزا ودين. وسيكتشف القارئ أنني حرصت على ذكر مواقف وأحداث عاشها أو عاصرها جارالله عمر من دون التوسع في نقل رؤاه النظرية والأيديولوجية، التي نشرها بنفسه أو نقلها عنه كثيرون من قبل.
سننشر هذه المرويات على حلقات، يمكن أن تحتل مكانا أساسيا في تاريخ اليمن السياسي خلال نصف قرن، ابتداء من خمسينيات القرن الماضي وحتى بدايات الألفية الثالثة.
*نشر أولاً في: عربي 21