تدفع النظرة المتعمقة في شؤون الإقليم وتطوراته، استراتيجياً وأمنياً، إلى استخلاص جملة من الحقائق التي تعبّر عن نفسها بصور شتى؛ سواء كان ذلك متمثلاً في جوار إقليمي طامع، أو جيوب داخلية مُلغمة بفعل ميليشيات مسلحة هنا، أو تنظيمات متطرفة هناك، فضلاً عن مسار سلام متعثر لا يتوقف عن تلقي المزيد من الضربات.
ولقد باتت المتغيرات وسرعتها، خصوصاً في ظلّ ما نشهده من تطورات جائحة «كورونا» تحدياً إضافياً يُلقي بظلاله غير المسبوقة على المستويات كافة.
تلك إذن مكونات رئيسية وأطر عامة للمشهد الذي تابعه كل مهتم بشؤون الإقليم، عندما اجتمع قادة وممثلو دول مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن حضور وزير الخارجية المصري سامح شكري، ومشاركة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، في مدينة العُلا بالمملكة العربية السعودية، وتوقيع الإعلان الذي حمل اسم المدينة وهو ما بات يُعرف بـ«اتفاق المصالحة» بين الدول المقاطعة (السعودية، ومصر، والإمارات، والبحرين)، مع قطر.
وبشكل مبدئي، فإنه ومنذ إعلان الاتفاق على «المصالحة» أظهرت ردود الفعل أنها لم تكن شأناً بين أطرافها – كما كان يعتقد البعض – وعكست حالة الترحيب بإتمامها اهتماماً ودعماً عربياً كبيرين، بل ومن دول غير عربية أيضاً.
وغنيٌّ عن القول إن تدخّل الدبلوماسية السعودية بثقلها، وبوصفها مفوضة من «المجموعة العربية التي اتخذت قرار المقاطعة عام 2017»، دفع المفاوضات التي رعتها الكويت بإخلاص ودأب إلى دخول مرحلة الحسم، ووضع بداية لطريق تكلل بإعلان التوقيع.
ولعل موقع الحسم الذي قادته المملكة، يُلقي عليها بمسؤولية إضافية – نثق بقدرتها على الاضطلاع بها – وتتمثل في المتابعة والتدقيق والبناء حتى تكون المصالحة بدايةً لنسق عربي واحد لا تعتريه الثغرات التي تُغري بعض القوى الإقليمية بالنفاذ والتدخل في شؤوننا، في إطار التربص الذي بات استراتيجية ينتهجها البعض.
وعلى مستوى نصوص ما اطلعنا عليه من وثائق المصالحة، فإنها بدت مشتبكة مع مبادئ مهمة وأساسية تحمل الكثير من التفاصيل التي تصلح كملامح للتعاون في المستقبل، وتعيد تماسك مجلس التعاون الخليجي بحيث يعود بقوة إلى الفلسفة التي قام من أجل تحقيقها.
كما عكس الحديث الضروري واللازم عن «المستقبل وحل رواسب الماضي بالعمل الدبلوماسي»، حكمة حقيقية بشأن أسس المحادثات التي سبقت «إعلان العُلا»، مع الرهان على الوقت لإذابة كل ما من شأنه أن يعكر صفو النيات الصادقة لبدء مرحلة جديدة وجدية من العمل العربي المشترك.
وعند النظر إلى «استعادة قطر إلى السرب الخليجي» كأحد مخرجات إعلان المصالحة، فإنها ستكون بلا شك خطوة مهمة لاستعادة التوازن الاستراتيجي بالمنطقة.
ولعل انخراط مصر بسياستها العربية الرصينة، في المضمار نفسه، وقدرتها على أن ترتفع فوق رواسب الماضي، يؤكد رهاناً صادقاً لطالما أعلنت عنه قيادتها بشأن إخلاص النيات لـ«علاقات عربية تقوم على الاحترام المتبادل»، و«عدم التدخل بشؤون الآخرين»، معربةً في الإطار نفسه عن أملها بتطوير الاتفاق حتى تعود العلاقات إلى مسارها الطبيعي، ووضعها المأمول.
وخاطئ من يظن عند النظر إلى اتفاق المصالحة أنه من الملفات التي تخضع للتقييم وفق «حسابات الربح والخسارة الفردية» وتغليب أحدها على الآخر، ولكن يجب النظر إليها من زاوية مجمل المكاسب الجماعية لأطراف الاتفاق، ومن دون إغفال تحقيق متطلبات «العلاقات العربية – العربية»، وتكريس حقيقة أن العمل العربي المشترك هو «السبيل الوحيد» لمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهنا.
إن السنوات العشر الماضية شهدت متغيرات ضخمة في الإقليم، لم تصحبها – مع الأسف – تطورات إيجابية علي أوضاعنا، بل أضافت ضعفاً، وحرمت شعوب المنطقة من التنمية، وبدا أن قضايانا أصبحت مزمنة، ومرشحة دائماً لإطالة أمدها، وعصيّة على الحل.
لكن «المصالحة العربية» التي أُعلنت عززت قدرتنا على حل مشكلاتنا، وعمّقت قدرتنا على التفاهم، وأظهرت وجود نيات حسنة وقدرة على تجاوز المشكلات الفردية لصالح المكاسب الجماعية القائمة على التقدير المتبادل، كما أنها عززت بناء القدرات الذاتية العربية في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية، وجميعها مطالب عربية لا تغيب على أحد.
ولا شك أن كل هذه النتائج التقطتها وفهمتها دول الإقليم المتربصة، التي ستسعى بلا شك لمحاولة تبديدها، وهو الرهان الأساسي الذي تخوضه الدول العربية من أطراف المصالحة وغيرها، ولا بديل لها إلا أن تؤكد مرة أخرى جدارتها وقدرتها وعروبتها.
* محمد العرابي وزير خارجية مصر الأسبق
*نشر في صحيفة الشرق الأوسط