ذكر علماء اللغة: أن (ف ت ن) “أصْل صَحِيح يَدُلُّ عَلَى ابْتِلَاء وَاخْتِبَارٍ. ومن ذلك الْفِتْنَةُ. يُقَالُ: فَتَنْتُ أَفْتِنُ فَتْنًا. وَفَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ، إِذَا امْتَحَنْتُهُ”.
ذكر علماء اللغة: أن (ف ت ن) “أصْل صَحِيح يَدُلُّ عَلَى ابْتِلَاء وَاخْتِبَارٍ. ومن ذلك الْفِتْنَةُ. يُقَالُ: فَتَنْتُ أَفْتِنُ فَتْنًا. وَفَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ، إِذَا امْتَحَنْتُهُ”.
ويفهم من استخدامات الفظ “الفتنة” في القرآن – في زهاء ستين موضعاً – أنه يتحرك في إطار معناه اللغوي، ففتنة الإنسان تعني: الضغط عليه بأي نوع من أنواع المؤثرات التي تفرض عليه – بالقهر – وضعاً معيناً، حتى وإن كانت مؤثرات ناعمة؛ فكما أن الفتنة تكون بممارسة الضغط النفسي، والتعذيب الجسدي، والتجويع والحصار، فإنها تكون بالتأثير الفكري المتمثل في الدجل والخداع، والتلبيس، وإلقاء الشبه، واستغلال العواطف واستنفار المغريات والشهوات. قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الأنبياء/ 35].
وتتمثل الفتنة في خلق أحداث تخرج المجتمع عن سلوكه الطبيعي، وتُسقط نظام الحياة، وتمزق شمل الأمة وتنتشر الفوضى، فتُهيمن العصبيات، وتحكم الأهواء والنزوات، مما يدخل الناس في مواجهات يجر بعضها بعضاً، تبدأ بالخصومة الكلامية، وتنتهي بقتال عبثي ودمار شامل لا يصيبن الذين ظلموا خاصة.
وهذه الأنواع من الفتن مما يجب التصدي له وإن ظهر على أيدي مسلمين، فالظاهر أن حكمه لا يختلف – من حيث المبدأ – عن الفتن المأذون بمواجهتها على أيدي غير المسلمين، لان الفتنة كالظلم تتعلق بذات الفعل، فإذا وُجد وَجَب صده.
ذكر القرآن الكريم أن درء الفتنة واحد من مبررات القتال المشروع، فقال ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة/193]. وكشف أن قبح الفتنة وخطورة آثارها أشد وأسوا من القتل ذاته، فقال: ﴿الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة/191] ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة/217].
ولكيلا تتحول مواجهة فتنة عابرة إلى فتنة دائمة؛ لا بد أن ندرك أن مواجهة الفتنة فتنةٌ وليس جهاداً حتى يُقْبل عليه بعضنا مبتهجاً وكأنه جَنَبات “بدر” أو شِعاب “حُنين”.
وذلك أن جميع الصور التي أذن فيها الإسلام بقتال المسلمين خاضعة لشروط لا بد من توفرها؛ حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى، ويدعي كل مشاغب أو صاحب هوى أنه يقاتل لتطبيق أمر الله في محاربة المفسدين ودفع الظالمين، أو أنه إنما يؤدب البغاة ويدرأ فتنة الخارجين على وحدة الأمة.
وأهم تلك الضوابط: أن يتم التحقق من وجود مبرر القتال، بعيداً عن الهوى الذي يقود إلى البحث عن مبررات للقتل بهدف تحقيق المطامع وإشباع الرغبات؛ لذلك حذر الله رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وصحابَته الكرام من الوقوع في تَمَحُّل المسوغات لتبرير القتل، وإن كان ذلك تحت راية الجهاد، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[النساء/ 94].
فكم من مفسد ظالم باغي، يتخذ شعار مقاومة الظلم والفساد وسيلة لبغيه وطغيانه، فلقومه قديماً﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر/29]. فلابد من التنبه إلى أن كثيراً ممن يشكي الظلم والبغي ظلوم كذَّاب، وكثير من دعاة الإصلاح مفسدون﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة/11] . لذلك لزم التحري والإنصاف في تلك الأمور الحرجة.
هذا إلى جانب أن يكون قتال المفسدين والبغاة والظلمة تحت راية تنطلق من رؤية واضحة مُعلنة تستند إلى أصل شرعي صحيح، وفي ظل قيادة ونظام عادل فوضه المجتمع في إدارة شؤونه وتسيير أموره، وهو ما يُعبر عنه بـ(ولاية أمر الأمة). ويستفاد دليله من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة/246] . فالقتال المشروع لا يكون إلا تحت راية هداية، لا راية عصبية وخلافات شخصية. فليس لكل من رغب في قتال خصمه؛ أن يحشد الناس للقتال، ويبرر ذلك بأنه قتال مشروع، بل قد يتمادى ويزعم أنه قتال في سبيل الله، ويجد من يبيع له فتوى بأن من يقتل معه شهداء وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون!!
ولهذا الحديث المهم بقية نتناولها في مقالات قادمة…