جدَل العَلمانيِّة (2/1)
جدل الإسلاميين والعلمانيين حول العلمانية يعود لعقود مضت، ولكنه أخذ شكلاً مختلفاً بعد ثورات الربيع العربي، لعدة عوامل، منها: ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الذي أدخل جعل الجدل الشعبوي، بعد أن كان نخبوياً إلى حد كبير، ومنها: ما ظهور خطاب جديد تزامن مع التغيير الاجتماعي والحراك السياسي للربيع العربي، فبرز فريق من الإسلاميين تخفف من خطابه القديم وبدأ تفهم المشكلات والتخوفات الحقيقية عند خصمه، وبالمثل كذلك عند العلمانيين الذين برز فريق منهم لم يعد يتحدث عن قطعية كاملة مع الدين، كل هذا مع بقاء فريق من الإسلاميين والعلمانيين على مواقفهم التقليدية السابقة.
أكثر الجدالات يمنياً وعربياً كان ولازال حول “العلمانية” هو في تعريف المفهوم ذاته، ذلك أن المفهوم غير متفق عليه في الأدبيات السياسية الغربية ذاتها، فما بين تعريف إجرائي يهدف إلى تنظيم الحياة السياسية وهو التعريف المشهور بـ”فصل المؤسسات الدينية (الكنسية) عن المؤسسات السياسية (الدولة)، والذي يختصر بـ”فصل الدين عن الدولة”، وتعريف فكري فلسفي يتوسع ليشمل مناحي الحياة المختلفة بما فيها السياسة والاجتماع، وأشهر تعريف له هو الذي صاغه الإنجليزي هوليوك في العام 1851 حيث عرف العلمانية بأنها: “الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو الرفض”.
كان الجدل حول هذين المفهومين للعلمانية على مستويين: الأول وهو الغالب، جدل سطحي يدور بين كثير من الشباب بدوافع أيديولوجية، وهذا الجدل السطحي لا يحرك المياه الراكدة، ولا يدفع للأمام في سبيل التعايش، وإنما يحقق وهم انتصار عن صاحبه أنه استطاع أن يستغل الموقف أو الحدث ليقول “انظروا العلمانية هي الحل” أو “انظروا الإسلام هو الحل” دون تقديم دراسة وتحليل لكيفية كونهما حلاً، ذلك أن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، والحل لمشكلات مركبة في مجتمعاتنا ليس حبة “بندول” يمكن أن تعطيها إياه فيشفى، وإنما يحتاج لحلول مركبة مبنية على دراسة معمقة، وفهم للواقع ومشكلاته.
عادة هذه الجدالات السطحية الشعبوية موجودة في كل مجتمع، ولكنها في كثير من المجتمعات وخاصة تلك التي صار وعيها أكبر تخضع وتنصت لجدالات المستوى الثاني: وهو المستوى المعرفي الذي يدرك الإشكال الحقيقي حول المفاهيم، وهذا مع وجوده في مجتمعنا اليمني إلا أنه ضعيف ولم يتحول بعد لظاهرة توجه المجتمع.
وقد تركز الجدل في المستوى الثاني على ثلاث إشكالات: أولها: ما المقصود بالعلمانية؟ هل ذلك المفهوم السياسي أم المعرفي الفلسفي؟ لأن ما سيبنى على ذلك سيكون مختلفاً، فالإسلامي “المتنور” لن يقبل بالمفهوم الفلسفي لأنه يلغي مرجعيته في الأخلاق والسياسة والاجتماع، بينما سيقبل النقاش والتفاوض في صيغة سياسية تلغي سلطة رجال الدين، وتنحيهم جانباً إلا عبر الأطر الديمقراطية، لكن المرجعية الدينية ستبقى أساساً في بقية مناحي الحياة، ومكان جدلها هو المجتمع المدني لا النضال السياسي، إذ هدف النضال السياسي هو تسوية الأرض بين الفرقاء لينالوا حقوقهم الأساسية ثم ليتركوا الباقي لإقناع المجتمع وما تفرزه قناعات وإيمان المجتمع، على أن يكون المجتمع مفتوحاً لسماع الخطابات المختلفة. وهذا الالتباس حول مفهوم العلمانية ما بين الإجرائي السياسي والمعرفي الفلسفي هو ما جعل ذلك الفريق المتنور إسلامياً لأن يدعو لاستبدال “العلمانية” بـ “المدنية” لتكون “المدنية” أكثر ضبطاً للمقصود السياسي الإجرائي دون غيره.
هذا ما يخص الفريق الإسلامي، أما الفريق العلماني فهناك من يوضح مقصده بالعلمانية بالمعنى السياسي، وهناك من يقصد المعنى المعرفي الفلسفي، وهناك من يتنقل بين هذا وذاك بحسب المزاج العام في المجتمع، أو لأنه ينكر وجود مفهومين للعلمانية، وهذا الاختلاف بين أفراد هذا التيار عمًق الجدل، وباعد نقاط الالتقاء.
من يعود إلى دراسة سياقات الصراع الكنسي السياسي في تاريخ أوروبا منذ اعتنقت الدولة الرومانية المسيحية ثم العصور الوسطى ثم عصر النهضة وعصر التنوير إلى الوقت المعاصر سيتضح له لماذا برز مفهومان للعلمانية، فالسلطة الكنسية كانت مهيمنة على نواحي الحياة المختلفة، مما جعل السياسة في حرب دائمة معها حتى تمكنت من الحكم المطلق الجامع بين سلطتين دينية وسياسية، ثم جاءت الثورات ضد ذلك الحكم المطلق وتكونت المفاهيم الفكرية ثم صارت قوانين تنظم الحياة السياسية، وربما تكشف لنا المصطلحات الغربية جزءاً من ذلك، فالعلمانية ترجمة لمصطلحين في التراث الغربي هما “اللائكية”” le laïcité و”السكيولارية” Secularism، وكان الأولى أن تكون ترجمة العلمانية للائكية، أما “السكيولارية” فالترجمة الأدق لها هي “الدنيوية” أو “الزمنية” أو “الدهرية” وهذا ما أكده كثير من الباحثين.
ولكل من المصطلحين تأثر بالسياق الاجتماعي الأوروبي فاللائكية مفهوم نشأ في المجتمعات الكاثوليكية التي كانت فيها سلطة الكنيسة قوية ومستبدة، ولذا كان صارماً مع سلطة الكنيسة ونادى بفصلها، وهذا ما جعل المفهوم إجرائياً سياسياً، رغم اختلافهم فيما بعد حول صرامته، هل تبقى بعد أن ضعفت الكنيسة أو يتخفف وينفتح أكثر وهو ما دعا له بشدة الفيلسوفان الألماني هابرماس والكندي تشارلز تايلور، وفرنسا هي المثال الأبرز لتلك الصرامة العلمانية، لأنها كانت الأكثر معاناة من استبداد الكنيسة، أما السكيولارية فمفهوم نشأ في المجتمعات البروتستانتية، وهي مجتمعات لا تتسلط فيها الكنيسة بل تعيش على وفاق مع السلطة السياسية، وقد تديرها السلطة السياسية ذاتها، وهذا ما أدى إلى بروز المفهوم المعرفي والفلسفي للعلمانية، فمع كونها مرنة في التعامل مع الدين إلا أنها تشمل استبعاد أفكاره من شتى النواحي وتستبدل مكانه مطلقات جديدة، ونموذج بريطانيا هو الأقرب لذلك.
وقد كُشف مؤخراً عن مخطوطات عربية مسيحية قديمة استخدم فيها مصطلح “العلماني” تعود للقرن الرابع الهجري، وقد استخدمتها الكنائس المشرقية في التمييز بين رجال الدين والعامّة (وغالبًا ما تستخدم الكنائس لفظ الشعب أيضًا). وهو مختلف عن ما صار يحمله اليوم مصطلح “علمانية” المجرد بوصفه مصطلحًا (للدلالة على تيار فكري أيديولوجي بشأن علاقة الدين بالدولة وغيرها من المسائل) فلم تستخدمه الكنائس الغربية ولا الشرقية، بل استُخدم من طرف منظّري هذا التيار نفسه في القرن التاسع عشر.
ولعل اختيار صاحب أول قاموس عربي/فرنسي وهو المصري القبطي إلياس بقطر ترجمة ((Secularism بـ العلمانية في معجمه عام 1818المطبوع عام 1827 كان اتصالاً بالتراث المسيحي العربي، فاختار تلك الترجمة التي كان يقصد بها الرجل العامي مقابل رجل الدين في الكنيسة، وليس العَالم الدنيوي المقابل للعَالم الأخروي.