أعرف أنَّ العنوان غامض، وأرجو صبر القارئ. التفسير أن هناك دولاً تبالغ في إعلاء المواطنة القومية لنفسها، وفي الوقت نفسه تحط من رغبة الآخرين في إعلاء وطنيتهم أو قوميتهم! ما أفكر فيه على وجه التحديد هو موقف إيران تجاه جيرانها العرب، لأنه مقلق ولأنه ينشب أظافر مصالحها في رقاب شعوب عربية قد تكون فقدت القدرة على مقاومته. لو قرأنا الموقف الإيراني تجاه الغرب والولايات المتحدة من جهة، والجهد المبذول من طرف الدولة الإيرانية لبناء موقف وطني (قومي) مضاد، لاعتبرنا أن هذا البناء هو حائط الصد كما يراه راسم السياسة الإيرانية، لذلك يعتبر مئات الآلاف الذين يعارضون سياسة الجمهورية الإسلامية من المواطنين الإيرانيين عبارة عن (خونة) يجب التخلص منهم، وبالتالي تكثر الاغتيالات غير الرسمية أو الإعدامات الرسمية للنساء وحتى اليافعة تحت السن القانونية، متى ما اتهم الشخص بأي من تلك التهم، والتي هي «خيانة الوطن»، أي عدم الولاء للنظام القائم. عدد من المواطنين الإيرانيين حتى من أولئك الذين لا ينتمون إلى الصف الآيديولوجي، يسارعون للدفاع عن سياسة النظام حباً في الوطن الأم وفخراً به. أحدهم هو حومد مجد صاحب كتاب «آيات الله يطالبون بالاختلاف» من بين عدد من الكتب، يقول إنه لما كان طالباً في إحدى المدارس الغربية ويُفصح لزملائه أنه من إيران، يتساءل معظمهم وأين تقع إيران؟ أما اليوم فإنَّ اسم إيران على كل لسان كما يقول، وهذا فخر له. الرجل ليس من العامة ولكنْ مؤلف وكاتب، الدليل ذاك يأخذنا إلى ما يمكن أن يسمى الفخر القومي، لذلك نجد أن كثيراً من الإيرانيين في الغرب يدافعون (من منطلق قومي) عن سياسة النظام رغم معرفتهم اليقينية على انحرافه عن حقوق الإنسان أو حتى التنمية بمعناها الشامل.
هنا يظهر التناقض الكلي بين تعظيم «الأنا» الوطنية، وتحقير الأنا الوطنية الأخرى، فعلى مقلب آخر الاعتراف الإيراني بما يمكن أن يسمى «الولاء الوطني» العربي في كل من سوريا أو لبنان أو اليمن أو العراق غير معترف به لدى النظام، بل ومتجاهل وفي مكان غير معلن (محتقر). واحد من الأسباب التي جعلت شعوباً عربية تنتفض ضد الحكم العثماني ومن بعده الاستعماري في أكثر من بلد عربي شيء اسمه (الحصانة القضائية والقانونية للأجنبي) يمكن للمرء أن يذكر العديد من أحداثها التاريخية، فقد كان الإيطالي أو اليوناني أو البريطاني في مصر والشام وغيرها من بلاد العرب (محمي) من المساءلة القانونية في حال ارتكابه جرماً مشهوداً، كل ما كان يحدث أن يسلم هذا الشخص إلى البلد الذي ينتمي إليه ليحاكم هناك، بل إن أحد أسباب تصاعد المعارضة ضد محمد رضا بهلوي هو موافقته على السماح لحصانة الجنود الأميركان في حال ارتكابهم جرماً على الأراضي الإيرانية، ويذهب بعض المتابعين للقول إن احتلال السفارة الأميركية في طهران في أبريل (نيسان) 1980 والتي سميت «مخلب النسر»، هي جزئياً عملية ثأرية لتلك الحماية غير المستحقة في نظر الأكثرية. الأمثلة الصارخة المضادة التي يقوم بها النظام الإيراني لدحض حق الدول العربية في الشعور الوطني، تظهر لنا في أكثر من مكان على أنها سياسة (دحض ممنهجة). المواطنة في الدول العربية التي تهيمن عليها إيران اليوم مشوهة، فشخص اسمه سليم عياش صدر عليه حكم ناجز من محكمة دولية وبعد سنوات من التحقيق والتمحيص في اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، الآن أن النفوذ الإيراني المتمثل في ذراع «حزب الله» في لبنان والذي كان خلف جريمة الاغتيال يرفض تسليم المُدان، بل في الغالب يجد المدان ملاذاً آمناً في مكان ما من أرض الجمهورية الإسلامية، أي أن السيادة اللبنانية غير معترف بها ومتجاهلة إلى حد الاستحقار، وأيضاً نجد من يقتل المتظاهرين في شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى، ولا يقدم إلى العدالة، بل يسير حراً بسلاحه لأن النظام الإيراني يريد ذلك ويحميه، ويفرض هذا النظام أن يحتفل بذكرى مقتل ميليشياوي متهم بسفك دماء عدد كبير من المواطنين العرب في سوريا ولبنان وغيرها، بفرض الاحتفال بذكراه في بيت الأمة العراقي غصباً عن أي رأي آخر بما فيه معظم المواطنين العراقيين. المشروع السياسي الإيراني القائم غارق في الشقاء، وقد أغرق معظم الإيرانيين والكثير من العرب معه في لجة آيديولوجيا ليس لها قرار، بل تميل إلى نوع من الفاشية المذهبية المدمرة والتي شهدتها أوروبا بعد الحرب العظمى الأولى. تتسم علاقة العرب بالإيرانيين بعنف شديد يظهر في تسمم العلاقة بين السنة والشيعة، ويتحول في بعضه إلى عنف مدمر ويترجم بمجازر مروعة يبدأ بعنف لفظي وينتهي بتفجير الجوامع والحسينيات وينظر المراقب بحسرة كيف أن مرحلة صعود القومية العربية لم يكن هناك ذلك الشقاق، فقد كان بطل العرب القومي (كما يعتقد كثيرون) جمال عبد الناصر متزوجاً من ابنة تاجر إيراني مهاجر إلى مصر، وهي تحية كاظم، ولم يتوقف أحد ليضع ذلك الموضوع محل تساؤل، بل إن الزواج بين الشيعة والسنة في بلاد مثل لبنان ودول الخليج كان وما زال مستمراً من دون أن يرفع أحد حاجبه ليتساءل أو أكثر من ذلك يعترض. الوصاية الإيرانية على مقدرات الشعوب العربية المجاورة هي المرفوضة، وهي وصاية لا تسعى كما هو ظاهر لإيجاد أرضية مشتركة. المشروع الإيراني يقاوم مشاطرة معايير العصر، وقد يتساءل البعض كيف لبلد أنتج كل هذه الثقافة وأنجب سعدي والشيرازي ومسعود وعمر الخيام وابن سينا والآلاف من العلماء والشعراء، أن يتحول إلى بلد مغلق خائف وقمعي في الداخل وعدواني في الجوار ومعادٍ للعالم؟ ذلك ليس جديداً في التاريخ فالحضارات تصاب بالنكبات، فقد ظهر بلد أوروبي رفد العالم بكبار الفلاسفة والفنانين وشكل حضارة علمية مشهودة، بلاد غوته وبتهوفن وكانط هي نفسها بلاد غوبلز وهملر وهتلر وسنوات الرعب والحروب، وأيضاً هي نفسها التي تحولت إلى بلد الديمقراطية الرشيدة والتي تقود أوروبا اليوم في ساحة التسامح والعلم. لقد عادت ألمانيا إلى نهضتها، فهل تعود إيران إلى مجدها التاريخي؟ الجواب ممكن عندما يختفي المسخ ويظهر الحضاري والإنساني والعقلاني.
آخر الكلام:
لقد بدأت بعض النخب في الدول العربية التي ابتليت بالاحتلال الإيراني تفصح أنها مستعدة لأن تضع ملفات الإصلاح والفساد وتدهور الخدمات وسقوط عملتها الوطنية في مكان متأخر على مطلب السيادة الوطنية التي انتهكتها إيران.. مطلب السيادة الوطنية هو الأول لأنه المدخل لكل إصلاح.
*صحيفة الشرق الأوسط