عندما يكون القارئ هو النص
وارد بدر السالم
سنمر على المفاهيم النقدية الخاصة بنظريات القراءة والاستقبال لدى القارئ بشكل سريع. ونرصد نظريًا بعض أنواع التلقي عند القارئ التي جاءت بها النظريات النقدية البنيوية ونظريات ما بعد الحداثة التي أسست لمفاهيم نقدية جديرة بالانتباه، تلك التي أوجدت الكثير من المفاهيم العلمية الخاصة بها وغذّت المنظومة النقدية بآراء ومفاهيم حيوية جدًا، على اختلاف أنواعها ومضامينها وتوجهاتها فيما يخص القارئ تحديدًا. لنقف عند اجتراح مفهوم جديد يخص القراءة والقارئ والنص بشكله العام من دون الخوض في الكثير من التفصيلات. بل نجعل مثل هذا الاجتراح الوصفي مناسبة للنقاش.
لكن بدايةً سيكون من الصعب أن نسجن القارئ بتوصيف محدد نقديًا واسم محدد تحت توصيف نقدي. فالقارئ متحول مع الكتابة ومستجداتها الإبداعية زمنيًا. والقارئ المعاصر غير القارئ القديم، مثلما هي مستجدات وتطورات الكتابة. فالقارئ الضمني متحول مع الكتابة (آيزر) مثلما هو القارئ الأنموذجي المتطور زمنيا مع حداثة الكتابة (إيكو) أو القارئ الأخير (ريكاردو بيجليا) أو القارئ الجامع (ريفاتير) أو القارئ المرتقب (وولف) أو العليم أو الصانع أو المتميز أو الواقعي أو الوسيط أو التاريخي. فهذه ألقاب ستبدو الآن مجانية إذا لم ننظر إلى ظرفيتها وزمنيتها، كما ننظر إلى ظروف الكتابة والكتّاب ونوع التحضر في المجتمعات السابقة.
ومن الثابت أنّ القراءة هي عملية تطورية مركّبة تحتاج إلى زمنٍ طويل من التبصّر والتأويل والتركيب والفهم العلمي لها، وهذا ما تحدده الأجيال المتعاقبة التي هضمت نظريات التلقي في زمنها على ضوء الإنتاج الإبداعي الذي عاصرته وعايشته وقرأته. وباعتقادنا أن القارئ يواكب ويراقب مراحل تطور الكتابة من حيث هي إنتاج إبداعي لمحاولة الوصول إلى المعنى النصي الأخير الذي يهمه؛ لا كفرد وحسب، إنما مراقبة وتحليل الظواهر الداخلية للمجتمعات وكيفية استيعابها أدبيًا. وعليه تخضع مسألة الكتابة إلى تمحيص دقيق من قبل قارئ مجهول على الأغلب حمل توصيفاتٍ متعددة. وبالتالي كلما تطورت عملية الكتابة تطور معها هذا القارئ لأنها ستوجِدُهُ بالنتيجة وتضيف له مسميات تالية، لتفرز أنموذجها القرائي الذي يُعوّل عليه في تأويل الكتابة بقراءات تشترط فيه معرفته الضمنية في اللغة والتاريخ والفلسفة والاجتماعيات عامة وسيكولوجيا الكتابة وتأويلها وغير ذلك.
البحث عن الهويات الصغرى والكبرى
سابقًا بحثت النظريات الأدبية النقدية في إقصاء المؤلف وموته أمام القارئ بعد شيوع مفاهيم البنيوية. وهذا موضوع أصبح قديمًا في تطور قارئ يبحث عن هوياته الصغرى والكبرى في متون الكتابة ما بعد البنيوية وجماعاتها التنظيرية. وبمعنى محدد فإن تطورات الكتابة في إحداثياتها الجديدة وتجلياتها الإبداعية في عصر تكنولوجي وإلكتروني متطور جدًا، ومع مشكلات بنيوية اجتماعية وسياسية، جعلت من القارئ؛ تحت أي مسمّى؛ يبحث عن هوياته السردية / الشخصية / كونه فردًا في منظومة اجتماعية وجماعية / كونه فردًا أحاديًا ضمن فريق اجتماعي يرتبط بهم بروابط تاريخية/ جغرافية/ نفسية. وهذه الإحالة قالها نورمان هولاند “إن قراءة القارئ للنص إنما هي قراءة لهويته هو..”، وبالتالي تبلورت رؤى قرائية جديدة ليست عابرة في الأحوال كلها فاختلف قارئ اليوم عن قارئ الأمس كثيرًا. اذ ليست المتعة السائدة في رومانسيات الرواية على سبيل المثال هي الهدف الأخير. وليست المضامين الثورية والاجتماعية هي التي تستهوي القراءة؛ إذ يرى “غونيور” أن النص الأدبي يمكن أن يعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين في أوقات مختلفة.. ويعني مثل هذا الأمر السياق التاريخي المتغير زمنيًا، والذي يأتي بأجيال جديدة هاضمة للنسق الثقافي السابق في كل مكان، مما يشير إلى ذائقة تأويلية أخرى تفترق عن الذائقة السابقة في فهمها للسياقات التاريخية المتغايرة طبقًا لقواعد الزمن المتغير في آلياته الكثيرة.
حاولت نظريات القراءة ما بعد الحداثة منذ الستينيات وحتى اليوم، منذ بارت ويوس وتودوروف وإيكو وغيرهم من منظّري الحداثة وما بعدها أن يولوا ما بعد النظرية البنيوية الاهتمام بالقارئ على حساب المؤلف في (تلفيق) موته. وهو موت رمزي في الحالات كلها، على أساس أن النص هو مجموعة عناصر ومكونات داخلية يسهم القارئ في فك شفراتها ويستطيع تأويلها من دون الرجوع إلى المؤلف أو إلى مقاصده وشفراته وأقنعته. وهذه نظريات أحدثت إشكاليات زمنية نقدية متناوبة في تقرير مصير المؤلف ومصير القارئ الذي أخذ ألقابًا ومسمياتٍ كثيرة.
الحياة الجديدة التي منحت السرديين إضافات باهرة في الشكل السردي وما جاوره من نصوص مماثلة، هي حياة القارئ الجديد الذي تشكل في أعقاب متحولات بنيوية
للكتابة من داخله هو وليس من خارجه
وربما قد يقودنا الأمر في مثل هذه المطالعة إلى اجتراح مفهوم آخر في فهم تكاملية القراءة وتواصلها الاعتباري والنفسي، على أساس أهمية القارئ في دوره كصانع مجاوِر للمؤلف. أو هو رديف متوقع في عملية التأليف. فالقارئ هو النص أيضًا. النص الآخر الذي يجاور النص المكتوب. النص المتحرك في تضاعيف النص الأساسي. وقد تبدو الموضوعة متداخلة إلى حد كبير. كون القاريء- النص ذاتًا متفاعلة مع النص لتمنحه وجوده، بتعبير تودوروف، بينما يؤكد رومان إنغاردن على أن النصوص بِنيات غير مكتملة تحتاج إلى خبرة قارئ. هذه الخبرات العالية تجعلنا نقول إنه من الممكن أن يكون القارئ نصًا داخل نص، يردم الثغرات المتوقعة في النص الأصلي، ويؤسس كيانه داخل العملية الإبداعية، ليعيد إنتاج النصوص على وفق ما تركه المؤلف من ثغرات وفجوات. لذلك فإن النص السردي مثلًا وهو يطوف العالم بالترجمات يخضع إلى سلسلة إجرائية من الفحص الدقيق. ويتعامل معه قارئ مجهول بعدد غير قليل من اللغات والثقافات. هو بالضرورة قارئ عشوائي غير معروف. لكنه امتلك القدرة المعرفية على أن يتحول إلى نص متحرك في تضاعيف نص مكتوب ومطبوع. ولن يبقى هامشًا يدور في فلك المؤلف، في بلاغة قرائية تسهم في إعادة إنتاج النص، بطريقة الهدم والتفكيك والتأويل والتأليف الآخر، على عكس ما نادى به “زيما” من استقلالية النص من دون تحميله طاقة إضافية تشوّه من صيرورته. وأن يُقرأ جماليًا فقط من دون أن تكون هناك هوامش ومتون جديدة تضعف النص بتحميله الكثير من الأسباب التي ربما تكون غير ناضجة. وهذا لا يعني (موت المؤلف) بحساباتنا، إنما (إحياء النص) بأكثر من طريقة يسهم فيها قارئ متسع المعرفة. و(إقصاء) مؤقت للمؤلف الذي وضع كل طاقته المعرفية والجمالية في نصه السردي. وبالتالي خرج من لعبة التأويل والتأليف الآخر الذي يقدّره القارئ الجمالي، وهو يعيد إنتاج النص باحترافية عالية؛ ليس كناقد إنما كمساهم في الخلق الجمالي.
تزفيتان تودوروف
القارئ هو النص أيضًا. النص الآخر الذي يجاور النص المكتوب. النص المتحرك في تضاعيف النص الأساسي. وقد تبدو الموضوعة متداخلة إلى حد كبير.
إن دخول القارئ مع النص ليصبح هو النص أمرٌ يحتاج إلى بلاغة نقدية موضوعية في فهم هذا التحول السريع، الذي تقف وراءه عوامل اجتماعية وسياسية على الأغلب الأعم. وهي عوامل ضاغطة على القارئ المعاصر الذي يبني تصوراته خارج النصوص المكتوبة السابقة، وهو يراعي زمنيتها وتاريخيتها. لذلك فإن القارئ المتحول إلى نص آخر سيكون بالضرورة ذكيًا وقابلًا لأن يتحاور نقديًا في المتن الرئيسي المطبوع. فالحياة الجديدة التي منحت السرديين إضافات باهرة في الشكل السردي وما جاوره من نصوص مماثلة، هي حياة القارئ الجديد الذي تشكل في أعقاب متحولات بنيوية ضاغطة وقوية ومؤثرة؛ من حروب وانقلابات واحتلالات وكوارث طبيعية وأمراض مفاجئة؛ أدت به إلى أن ينظر للكتابة من داخله هو وليس من خارجه ليكون هو النص الذي لم ينتبه اليه أحد حتى الآن!