في الـ 30 من نوفمبر 1967م غادر آخر جندي بريطاني مدينة عدن، إثر غليان ثورة الرابع عشر من أكتوبر1963م، التي طردت المستعمر المباشر، وجنوده ومظاهر بريطانيا على التراب اليمني، وحينها وصف هذا الحدث بأنه “عيد الاستقلال”، وقد كان إنجازا لا يشوبه شائب ولا يعتريه غبار، إنجاز فائق العظمة نسجته دماء الثوار الزكية، وتوهج بضياء أرواحهم الفدائية الطاهرة التي طردت المحتل.
في الـ 30 من نوفمبر 1967م غادر آخر جندي بريطاني مدينة عدن، إثر غليان ثورة الرابع عشر من أكتوبر1963م، التي طردت المستعمر المباشر، وجنوده ومظاهر بريطانيا على التراب اليمني، وحينها وصف هذا الحدث بأنه “عيد الاستقلال”، وقد كان إنجازا لا يشوبه شائب ولا يعتريه غبار، إنجاز فائق العظمة نسجته دماء الثوار الزكية، وتوهج بضياء أرواحهم الفدائية الطاهرة التي طردت المحتل.
وبعد نحو نصف قرن على ذلك التاريخ المشرق، يمكننا أن نتجرد قليلاً في نقاش عميق، بعيداً عن تخدير أذهاننا بالأهازيج والأغاني التي تصنع أمجاداً في أثير المذياع وعبر شاشات التلفزة، ما تلبث أن تنطفئ مع انقطاع الكهرباء!!، وهذا لا ينتقص من الاحتفال وأهميته فهو ليس أمراً منتقدا، إذ يعد من صلب الواجبات الوطنية، كمحطة سنوية لشحن النفوس بالمعاني الوطنية وقيمة الاستقلال والحرية والكرامة وهذا ما نريده الآن، وذلك بالاقتراب من حقيقة “الاستقلال” وجوهره.
الاستقلال بمعناه القريب الغير متكلف تختزله عبارة شهيرة وهي “أن نأكل مما نزرع، ونلبس مما ننسج ونكتفي مما نصنع” أو بتعريف آخر “أن نمتلك قرارنا السياسي والسيادي”، فهل حقا نحن كذلك؟!
الاستقلال نقيض الاستعمار، وقرار مصيري دائم يأتي معه الاستقرار والبناء والإنتاج والتنمية، وهذا ما زال متوقفاً عند الكلمات، لم يذقه العربي بعد منذ آخر انكسار في أطراف الخلافة العثمانية قبل سقوط الأمة جغرافياً وسياسيا وثقافياً في براثن الاستعمار، وهو ما يجب أن العودة إليه سريعا في محاولة استعراض حكاية الصراع بين الاستعمار والاستقلال والاستغلال، كمصطلحات ومدلولات.
والحقيقة التاريخية التي لا يستطيع أحد نكرانها، أن أمتنا الإسلامية ومنها العربية واليمن جزء منها، دخلت تحت سيطرة الاستعمار بشكل مباشر منذ مارس 1916م بعد توقيع اتفاقية (سايكس بيكو) الشهيرة، والتي كانت بين بريطانيا وفرنسا بعد خروج الاتحاد السوفياتي منها آنذاك واختلافه معهما على تقسيم الكعكة والثروات العربية، بعدها بدأت شراذم الاستعمار وجيوشه تغزو المنطقة، حيث امتدت أذرع الاخطبوط البريطاني في أحشاء الأمة، وتم تأسيس شركة (بتروليوم بريتش) ونظيرتها (توتال) وامتدت خراطيمهما في باطن الأرض، لحقتها الشركات الأمريكية وغيرها وبدأت كلها في شفط ثروات المنطقة واشعال الحروب من أجل النفط، حتى اليوم.
وبدون الغرق في التفاصيل، فإن الأمة العربية والإسلامية لم تقف مكتوفة الأيدي، إزاء ذلك الاستعمار الهمجي، بل إنها بدأت بالتعبية الفكرية والمعنوية ضد المستعمر حيث تخلّقت حركات المقاومة والتحرر في أنحاء الوطن المحتل في هذه الجغرافيا التي تتحدث الضاد، وبدأت فعلياً المواجهة ضد المستعمر ولاحقته حتى تحقق الإنجاز الأول بطرد جنود المحتل بالثورات المسلحة في أغلب الأوطان عدا فلسطين المحتلة، ويمكننا أن نعتبر هذه الموجة الأولى من موجات المواجهة مع المستعمر بشكل مباشر.
جاء في مذكرات العزي صالح السيندار أحد ثوار سبتمبر في شمال اليمن، أن المفاوضات التي كانت تجري بين أسرة حميد الدين و “الأتراك” أخذت طابعا انتهازياً، وذلك أن الامام يحيى حميد الدين كان ينقلب على الاتفاقات عند كل جلسة مفاوضات، وأسباب ذلك تعود إلى استناد أسرة حميد الدين إلى قوة بريطانيا، كأحد أذرعها في المنطقة، تلك الحقيقة اقترب منها بشكل أكبر السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته التي نسجها في مارس 1917م عن دور الماسونية والصهيونية وأذرع المخابرات الأجنبية في تقسيم وتفتيت الأمة، وطرق الاستعمار.
فهل كانت الموجة الأولى من ثورات التحرر العربي والإسلامي كافية؟، يجيب عن ذلك الشاعر والأديب الكبير عبد الله البردوني وهو يخاطب صنعاء: ” فهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري”!
غادر الاحتلال المباشر، لكنه ترك في بلاد العرب “سلطات” تدير الدول، وتتركها مرتهنة للاستعمار، فلا الأمة العربية “أكلت مما تزرع ولا نسجت ولا صنعت”، بل بقيت ثرواتنا كلها لقمة سائغة للمحتل والمستعمر، فلو تتوقف –أيها القارئ الكريم- مع مصطلح “السلطة الفلسطينية” الذي طالما دوى في مسمعك ولا يزال صداه يتردد في الإعلام، وهو يختزل دور السلطات التي لا تمتلك قرار ولا ترعى مصالح دول، فإنها نسخة واضحة للسلطات العربية، كلها بلا استثناء، غير أنها ظاهرة في فلسطين بظهور المحتل بينما في بقية الدول كانت تحاط بالغيوم، والنتيجة أننا لم نتحرر مطلقاً، بل دخلنا في فخ أكبر من مظاهر المستعمر المباشر، بعد أن تغير جلده وبدا يتحدث بلساننا ويشبهنا في كل شيء غير أنه محتل الهوى والولاء، فكان لا بد من موجة ثانية للتحرر، تمثلت تلك في ثورات شعبية عارمة أطلق عليها مصطلح “الربيع العربي”.
والربيع العربي كان موجة مباشرة استهدفت الحزام الثاني للمستعمر، بإسقاط بعض الأنظمة التي كانت أدوات عقبت الوجه المباشر للمحتل، ومثلما أن المستعمر التف على الموجة الأولى من ثورات التحرر العربي بتوريث الكراسي “للسلطات العربية” وبقي القرار المصيري بيده، فإنه –أي المستعمر- أراد أن يلتف على الربيع العربي بثورات مضادة تقوم بها “السلطات” التي كانت من صنعه، لكن بعد ان صنع لها رداء شعبيا مزيفاً في محاولة لكسر الحاضنة الجماهيرية الصلبة للربيع العربي، كموجة ثانية ضد الاستعمار.
لقد كادت الثورات المضادة المدعومة من قوى الاستعمار، كادت أن تنجح وتحقق كافة أهدافها في وأد مشروع الأمة، وكسر موجته الثانية، لكن عاصفة الحزم جاءت الموجة الأقوى في وجه المستعمر حتى اللحظة والتي استهدفت الحزام الثالث للاستعمار، بما يسمى بالشرعية الدولية أو الاجماع الدولي والمختصر في “الأمم المتحدة”!
نحن الآن في عمق الموجة الثالثة للأمة في وجه الاستعمار، وبقي بيننا وبين الاستقلال هدم أسوار أخرى للمستعمر، وبناء أسوار مكانها للأمة، وحتى يكتمل مشروع السكة الحديدية بين مكة والقدس الذي بدأه السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، فإن الأمة العربية والإسلامية ستتذوق حقيقة الاستقلال حينما تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، وقد اقترب الوعد الحق ولكن أكثر الناس لا يعلمون.