30 نوفمبر 1967م يوما مجيد برحيل آخر جندي بريطاني من مستعمرة عدن , رحيل مبكر فرضته مقاومة شعبية , وكفاح مسلح فدائي , عطل خطة الرحيل المقرر في بداية السبعينات , ومشروع جمع السلطنات ومحمية عدن في كيان سياسي بمسمى ( اتحاد امارات الجنوب العربي ), بعيدا عن موجة القومية العربية , والدولة الوطنية التي تتشكل سماتها في الوطن العربي حينها .
مشروع يقدم استقلال منقوص , ويحد من مطالبات العرب بالدعوة للاستقلال التام , ليبقي على السيطرة البريطانية على الشؤون الخارجية والاستمرار في المحافظة على شركة بريتيش بتروليوم في مصفاة عدن الصغرى, كيان مسموم في خاصرة العرب والمشروع القومي , يخدم الاستعمار وأعوانه الصهاينة .
قوبل هذا المشروع بمعارضة شديدة من القوى الوطنية في عدن , ومظاهرات عارمة خارج المجلس التشريعي , في سبتمبر 1962م ,تستهدف منع اعضاء المجلس التشريعي العدني من دخول المجلس للتصويت، مما زاد من حجم المقاومة سياسيا وعسكريا , مما استدعى تعزيز بريطانيا قواتها , بقوات أكثر شراسة , في معركة مصيرية انتصرت فيها ارادة الناس برحيل المستعمر .
في الوقت الذي كانت فيه عدن على طريق الحكم الذاتي , كميناء ومركز تجاري , حيث كان يرى بعض السياسيين المعارضين , الاندماج مع السلطنات الاستبدادية المتخلفة هو خطوة في الاتجاه الخطأ.
بينما القوى الوطنية , لا ترى عدن بمعزل عن محيطها وهويتها اليمنية الاصيلة , وتراها نواة رائده لتحرر تلك المناطق من الاقطاع و الكمبرادور والاستبداد والتخلف والجهل , وكان الاستقلال الفوري مطلب دون أي مستحقات .
وذهب الاستعمار للبحث بديل لتشكيل كيان في خاصرة العرب والمشروع القومي , كانت ( اتحاد الإمارات العربية ) التي تأكد اليوم دورها في خدمة المشروع الاستعماري والصهيوني , ما علينا , نهتم ببلدنا .
بعد 53 عاما من ذلك اليوم , لازال السؤال قائما هل أنجز الاستقلال ؟!
استقلال حقيقي للسيادة والقرار , مكن من نهوض عدن , لتنافس بقوة , كمركز تجاري واقتصادي في المنطقة .
سؤال يحتاج لدراسة عميقة , وعقول علمية واقتصادية , خالية من التعصب السياسي والايدلوجي , لتقييم مرحلة مهمة من تاريخ الامة , مرتبطة بمصيرها ونهضتها وحقها بالحياة الكريمة , والتعايش لكل الأطياف , والاستمتاع بما وهبه الله لنا من موقع استراتيجي وثروات طبيعية وعقول بشرية لم تستغل استغلال صح لحد الان .
لا ينكر غير جاحد دور عدن في نشر العلم والمعرفة في الريف , في الصحاري و الجزر والمرتفعات , في تحضر مناطق كانت أشد تخلفا , حين تجند ابنائها لنشر التعليم والمعرفة وتنوير عقول تلك المناطق , كانت عدن منبر إشعاع فكري وثقافي وسياسي , انار ظلام تلك الحقبة , انار العقلية وساعد في تجاوز العصبية والعنف وثارات القبيلة , لتندمج في رحاب المدنية والتحضر , وكان لذلك انعكاسات سلبية , في اندماج المجتمع العدني بالمجتمعات العصبية في الريف ,والنتيجة واقعنا اليوم الذي تخلق من هذا الاندماج .
ما الذي حدث , للتفوق العصبية على المدنية , و تسيد العنف على الافكار ؟
المطبخ السياسي الذي تشكل أبان الاستقلال , كان مزيجا من قوى العنف , وقوى العصبية , وقوى الثقافة والفكر والسياسة , وبدا مخاض هذا التنوع يعمل في بيئة أكثر تخلفا وعصبية , وبدأ الصراع بين قوى الحداثة , وقوى العصبية , بين التسلح الفكري والثقافي , والتسلح العسكري والعصبوي , وبدأت الايدلوجيا تخترق النسيج الهش , كان قابلا للشحن والحقن بايدلوجيا غريبة على تربيته و فوق مستوى وعيه , و الحلم الطوباوي , والمدينة الفاضلة , تعصب البعض تعصب اعمى للايديولوجيا , واغلق البلد ايدلوجيا بقوى متخلفة .
افتقار المطبخ السياسي للتنوع الفكري , وفرض عليه تناول فكر محدد دون ملل , زاد من مشاعر الإقصاء والتهميش , وانحصرت منطقة صنع القرار بجماعة مغالية الأيدلوجية , و تقاسم للسلطة مناطقيا جهويا , وزاد الطين بله الارتهان لأحد أطراف الصراع الدولي الأكثر انغلاقا , في تجربة فشلت و فشل معها مشروع الدولة الوطنية , حينما سقط مركز الايدلوجيا , سقطت التبعية والارتهان , وانهزم أمام مشاريع مغايرة , في ديمقراطية ناشئة , كان الحلقة الأضعف فيها .
تغير الزمان ,ولم تتغير العقلية , ونظرة الازدراء من الاخر , وعدم تقبل المختلف , حتى اللقاء المشترك كان فكرة وعي , لم تستوعبها عقلية الا وعي , المسكونة بالغلو الأيدلوجي , لتكن ضحية الاستقطاب في كل المراحل , في الصراع الإقليمي والدولي , لتبقى مرتهنة لذلك الصراع , وتجد نفسها فيه لتفرغ ثاراتها واحقادها , كراهية وانتقام .
المشكلة تكمن في توريث كل ذلك للشباب , ليبقى مثخن بأعباء فشل اسلافه , الشباب صاحب المصلحة الحقيقية بالمستقبل , هو اليوم ضحية التوظيف السيئ , ضحية المال والإعلام , ضحية التزوير والتغرير , بكلام معسول عن الحرية والاستقلال , وهو مقيد بأغلال التبعية والارتهان لغير الوطن والهوية الوطنية .
الحل يكمن في استقلال الذات , وتجاوز عثرات الماضي , والقبول بدولة وطنية اتحادية حقة , تفتح مساحة واسعة للحريات والمواطنة , وحق تقرير المصير بعيدا عن التوظيف السيئ , والارتهان والتبعية لغير الوطن , والله الموفق .