عندما أقال الرئيس ترامب وزير الدفاع مارك أسبر من منصبه، وأجرى تغييرات أخرى في الوزارة، توقع السياسيون والمحللون أن يتبع ذلك بقرارات أحادية مثيرة للجدل خلال الفترة الانتقالية، الممتدة من الانتخابات في الثالث من نوفمبر إلى ادلاء الرئيس المنتخب لقسم اليمين في العشرين من يناير المقبل، بعد أن يكون قد تخلص من أي أصوات معارضة أو ضوابط بيروقراطية تحد من سلطته.
أسبر قال بعد اقالته انه يتخوف من أن يعين ترامب خلفاً له لا يعرف إلا أن يقول “نعم” للرئيس، وعقب ذلك بالقول ” ساعدنا الله”. بعد ذلك بفترة وجيزة، تم الكشف عن أن ترامب بعد الانتخابات طلب من مساعديه ومستشاريه تقديم خيارات عسكرية لضرب منشآت نووية في إيران، من أبرزها المفاعل النووي في ناتانز، بعد أن أكد خبراء وكالة الطاقة الدولية أن إيران قد زادت من حجم كميات اليورانيوم المخصب لديها بنسبة تزيد عن 12 مرة عن الحجم المسموح لها وفقاً للاتفاق النووي الدولي، الذي وقعته إدارة الرئيس باراك اوباما في 2015، والذي انسحب منه الرئيس ترامب في 2018. وقالت الأخبار المسربة أن معظم مساعدي ترامب، بمن فيهم وزير الخارجية مايك بومبيو، وهو أقسى منتقدي النظام الإيراني، إضافة إلى القادة العسكريين، أقنعوا ترامب بالمضاعفات السلبية الكبيرة لضربة عسكرية، يوجهها خلال الفترة الانتقالية، ويمكن أن يورثها مع كل تبعاتها للرئيس المنتخب.
وبعد أيام، أعلن الرئيس ترامب عن قراره بتخفيض عديد القوات الأميركية، المنتشرة في أفغانستان والعراق وصوماليا، مع حلول منتصف شهر يناير، أي قبل خمسة أيام من دخول جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض. وأعلن وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميلر أنه سيتم تخفيض القوات الأميركية المرابطة في أفغانستان من 4500 عسكريا الى 2500 تقريباً، وتخفيض القوات المرابطة في العراق من3000 عنصر الى 2500، وسحب جميع القوات المرابطة في الصومال والبالغ عديدها 700 عنصر. اللافت أن ميلر لم يتطرق إلى مستقبل القوات الأميركية المنتشرة في شرق سوريا، والتي أعرب ترامب أكثر من مرة عن رغبته بسحبها.
الرئيس ترامب وأنصاره يقولون إن الانسحابات هي تنفيذ لوعود المرشح ترامب في 2015 و2016 بضرورة انهاء “الحروب التي لا نهاية لها” في الشرق الاوسط وجنوب آسيا. ولكن العديد من المحللين الاستراتيجيين والسياسيين، ومعهم قسم هام من المشرعين الأميركيين يقولون إن قرار ترامب هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، ويعكس رغبته بفرض واقع ميداني صعب على الرئيس المنتخب بايدن، وأن يقيد يديه ويحد من مرونته بمعالجة أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة. ويشير هؤلاء أنه إذا كان ترامب يريد إنهاء هذه الحروب الطويلة لماذا انتظر إلى آخر شهرين له في السلطة؟ ولماذا يفعل ذلك خلال فترة انتقالية لا يتخذ فيها عادة الرئيس الأميركي أي قرارات يمكن تكبل أيدي خليفته؟ المفارقة هي أن ترامب الذي كان ينتقد ويستخف بإعلان ادارة الرئيس السابق أوباما عن مواعيد تخفيض أو سحب القوات الأميركية من تلك المنطقة، فعل ترامب الشيء ذاته أيضا حين أبلغ الصديق والعدو بالانسحابات في منتصف يناير.
يقول الباحث البارز في “مركز التقدم الاميركي” برايان كاتوليس، إن قرارات ترامب ليست مبنية على حسابات سياسية أو استراتيجية، بل على اعتبارات سياسية شخصية، “لأنه يريد أن يخلق الفوضى والارتباك” لخلفه الرئيس المنتخب بايدن، على الرغم من أنه يواصل رفضه الاعتراف بفوزه في الانتخابات. ويرى كاتوليس إن مثل هذه القرارات الاعتباطية وغير المنسقة مع الحلفاء “ليست في صالح الولايات المتحدة أو في صالح الشعبين العراقي والأفغاني”.
بعد ساعات من اعلان تخفيض القوات، تعرضت “المنطقة الخضراء” في بغداد، والتي تشمل السفارة الأميركية، لاعتداء صاروخي، وكأن إيران وميليشياتها يحتفلون بالمفرقعات الصاروخية بالانسحاب الأميركي الجزئي.
ولكن أبعد من المشاعر الشخصية للرئيس المهزوم، الذي فرض حصاراً على نفسه في البيت الأبيض، هناك مضاعفات سلبية وبعيدة المدى على العراق، وبالأخص على أفغانستان، وعلى سمعة الولايات المتحد ة في المنطقة، كما في عواصم دول حلف الناتو، وتحديداً تلك التي لديها قوات في أفغانستان، والتي لم تناقش إدارة ترامب معها كيفية تخفيض القوات الأميركية، وأثر ذلك على قدرات وعمليات القوات الأخرى التابعة لحلف الناتو. بل إن البيت الابيض لم يناقش مسبقاً أو رسمياً مع الحكومة الأفغانية قرار ترامب وتوقيت الانسحاب، خاصة وأن مفاوضات السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، كانت قد تعثرت مؤخراً في أعقاب ازدياد وتيرة هجمات طالبان على القوات الحكومية الافغانية.
قرار ترامب بتخفيض عديد القوات في افغانستان بمستوى النصف تقريباً، عرضه إلى انتقادات من الخبراء العسكريين وقادة الكونغرس من الحزبين، وحتى من قبل المطالبين بإنهاء الوجود العسكري في افغانستان، لأنهم يريدون انسحابا منسقاً مع الحكومة الأفغانية والشركاء في حلف الناتو، وأن يتم ذلك بدعم سياسي في الولايات المتحدة. وحتى زعيم الاغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونال، الحليف القوي لترامب، انتقد قرار الرئيس، وقال إن مضاعفات الانسحاب من افغانستان “من المرجح ان تكون أسوأ من قرار الرئيس أوباما سحب القوات الأميركية من العراق في 2011، والذي عجّل بروز تنظيم الدولة الإسلامية، ودورة جديدة من الارهاب الدولي”.
تخفيض عديد القوات الأميركية في أفغانستان، يعني أن هذه القوات سوف تتوقف عن تدريب القوات الأفغانية، وتوفير المشورة العسكرية لها، والتركيز على مكافحة الارهاب، ما يعني أن قدرة القوات الحكومية على مواجهة مقاتلي طالبان سوف تنحسر، الأمر الذي سيشجع طالبان على تكثيف هجماتها، خاصة إذا ظلت المحادثات الديبلوماسية متعثرة.
السياسيون والمحللون في واشنطن يقولون إن مثل هذه الانسحابات السريعة، وخاصة من أفغانستان، سوف تبدو للحلفاء والأعداء وكأنها تراجع عسكري، ويشير بعض الخبراء إلى أن واشنطن لن تستطيع سحب جميع معداتها العسكرية والبنية التقنية التي بنتها في قواعدها العسكرية خلال شهرين فقط، وبالتالي سوف تضطر إلى تدمير معدات تقنية وأنظمة استطلاعية وغيرها لكيلا تقع في أيدي عناصر طالبان. مثل هذا الانسحاب السريع، لن يعزز من ثقة الحلفاء في الشرق الأوسط، وفي عواصم دول حلف الناتو، بصدقية وثبات الالتزامات العسكرية الأميركية في المستقبل.
ويقول الخبراء في شؤون العراق إن سحب 500 عسكري أميركي لن يغير كثيراً من طبيعة وقدرات القوات الأميركية في العراق في القيام بمهامها الأساسية، أي مكافحة ارهاب “داعش” و”القاعدة”. ولكن لهذا الانسحاب الجزئي أهمية رمزية لمستقبل العلاقات بين بغداد وواشنطن، لأنه يأتي في أعقاب ازدياد وتيرة تحرش الميليشيات العراقية الموالية لإيران بالعسكريين والمدنيين الأميركيين في العراق. هذه التطورات أقلقت واشنطن في الأشهر والأسابيع الماضية، لدرجة أن وزارة الخارجية بدأت بدراسة إمكانية اغلاق السفارة الأميركية في بغداد، والتي تعتبر أكبر منشأة ديبلوماسية اميركية في العالم.
تخفيض “البروفيل” العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق، والأهم من ذلك الطريقة المتسرعة والاعتباطية لهذا التخفيض، سوف يشجع إيران على التدخل أكثر في شؤون أفغانستان والعراق. قرار ترامب الاعتباطي، لم ينه الحروب التي لا نهاية لها، لا بل يمكن أن يؤججها أكثر خلال ولاية الرئيس الجديد بايدن، الذي سيرث من إدارة ترامب تحديات صعبة في المنطقة، جعلت الخصوم في وضع أفضل، والاصدقاء في وضع أصعب. في السنوات الأربعة الماضية ازداد نفوذ إيران وروسيا في سوريا، على حساب نفوذ ومصالح واشنطن وحلفائها وخاصة الأكراد. كما ازداد نفوذ روسيا وتركيا، الحليفة بالاسم لواشنطن والدولة المناوئة بالفعل لمصالح الولايات المتحدة، في سوريا وفي ليبيا.
في يناير المقبل سوف يجد الرئيس بايدن إن الشرق الأوسط، الذي ينتظره بترقب وحذر ولديه أسئلة كثيرة، الأمر الذي يتطلب اهتماما ًملحاً وسريعاً، وأن عليه وفريقه معالجة التوتر الذي ستتعرض له علاقات واشنطن مع السعودية، إذا قرر بايدن بالفعل “اعادة النظر” بالعلاقات معها كما تعهد خلال الحملة الانتخابية. كما أن دول الخليج ومصر سوف تسعى إلى تطمينات من إدارة بايدن بأن أي محاولة لإحياء الخيار الديبلوماسي مع إيران للتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران (فرض التوصل إليه في أي وقت قريب معدومة حالياً) يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح وقلق هذه الدول، وضرورة ردع سياسات إيران التخريبية في الدول العربية، وهو ما لم تقم به إدارة الرئيس باراك أوباما خلال مفاوضاتها النووية مع طهران. كما أن بايدن سيجد ائتلافاً إقليمياً جديداً مناوئاً لتركيا وسياساتها التصعيدية في شرق المتوسط وليبيا، مؤلفاً من مصر وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، ومدعوماً من اليونان وفرنسا. بايدن الذي قال خلال حملته الانتخابية أنه يجب “محاسبة” الرئيس التركي طيب رجب أردوغان على سياساته السلبية داخل وخارج تركيا، سوف يطالب من قبل هذه الدول بترجمة هذا الموقف بطريقة عملية، لأن النفوذ التركي العدائي من مياه الخليج إلى مياه البحر الأحمر وانتهاء بمياه البحر المتوسط، أصبح من وجهة نظر بعض الدول العربية أخطر من النفوذ العدائي الايراني.
*نشر أولاً في “معهد دول الخليج العربية في واشنطن”