حضرموت… سادة ومهاجرون وسيوف عابرة للحدود
محمد تركي الربيعو
على الرغم من مرور عدة سنوات على اندلاع الأزمة اليمنية، ما تزال المكتبة العربية فقيرة في ما يتعلق بمعرفة اليمن، وتاريخه، وجماعاته، وتنوعه المعقد والغني، ما أدى أحياناً إلى أن يغدو هذا الملف شائكا ومعقداً وغير واضح للباحث العربي المتابع للأحداث، وقد انعكس هذا على مستوى تغطية ومتابعة الأحداث في هذا البلد، مقارنة مثلاً ببلدان المشرق العربي الملتهبة، على الرغم من أن الوضع فيه لا يقل سوءاً وتعقيداً. لكن ربما ما يبهج على هذا الصعيد، أن في مقابل هذا الفقر العربي، نشهد تنامي الدراسات حول هذا البلد على مستوى كتابات الجامعات الغربية، التي أخذت تقدم معرفة جديدة عن عدد من مدنه مثل صنعاء وعدن وحضرموت، خلافاً للصورة القبلية المختزلة والنمطية، لليمني بزيه التقليدي وخنجره، التي عادة ما صور بها هذا البلد.
كما أن الجميل أيضا في هذه الكتابات، أنها ضمت مؤرخين وباحثين أنثروبولوجيين قدموا لنا مقاربات مختلفة عن تاريخه، من خلال إعادة النظر بجغرافيته وبمحطيه الحيوي، فبدلاً من زاوية البعد القومي العربي، التي عرف بها اليمن في العقود الأخيرة، سيعيد هؤلاء اكتشاف دورب منسية، عبر ربطه بالفضاء الهندي وشرق الآسيوي، ما سيمكننا حقيقة من اكتشاف تاريخ آخر لهذا البلد وأهله، وقصص آلاف اليمنيين ممن عاشوا في إندونيسيا والفلبين وحتى كينيا. وربما لو حاولنا اليوم رصد عدد من هذه الجهود التي نشرت في السنوات الأخيرة عن اليمن، يمكن الإشارة لمشروع الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه مؤلف كتاب «شيخ الليل.. أسواق صنعاء ومجتمعها» الذي عكف في العقود الماضية على دراسة أسواق صنعاء، كما انشغل لاحقاً بدراسة مدينة عدن المعاصرة، وما عرفته من تحولات، بالإضافة إلى رصد حياة الأولياء ورجال الدين في داخلها، ولم يقتصر جهده على هذه الأبحاث الأثنوغرافية، وإنما ساهم في سنوات الأزمة بالإشراف وتحرير عدة كتب حول الهويات في اليمن، والواقع السياسي، برفقة لوران بونفوا.
أما المحاولة الثانية، والمفاجئة، التي ننوي الحديث عنها اليوم، فتتمثل في الأبحاث التي أعدت مؤخراً عن منطقة حضرموت لعدد من الأنثروبولوجيين والمؤرخين الغربيين والآسيويين، وصدرت مؤخراً في كتاب بعنوان «حضرموت والمهجر.. السياسات اليمنية والهوية والهجرة» ترجم مؤخراً عن مركز فيصل للدراسات. نتعرف في هذا الكتاب، الذي جاء حصلية تراكم أثنوغرافي وبحثي حول هذا الإقليم، على قصة حضرموت والتحولات التي عرفتها في المئة سنة الأخيرة، وربما الأهم من ذلك، قصة أبنائها المهاجرين وشبكاتهم ودورهم في بلدان شرق آسيا.
كان المهاجرون الحضارمة يتولد لديهم إحساس بعدم المساواة، إلى الحد الذي اتهموا فيه «السادة» بمنع أطفال «المساكين» من تلقي التعليم بعد بلوغ مستوى معين في المدارس التي يديرونها.
في الفصول الأولى، يبين كل من نويل بريهوني (جامعة درم البريطانية) وسعد الدين بن طالب ( وزير يمني سابق) أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت حضرموت جزءاً من محمية عدن، ثم محمية شرق عدن في الجنوب العربي المحتل من قبل بريطانيا، ثم تابعة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1967 /1990 ثم تابعة للجمهورية اليمينية بدءا من مايو/أيار 1990، وفي ظل نظام الحكم البريطاني، كانت حضرموت منفصلة عن بقية الجنوب العربي، فقد قاوم السلاطين /القعيطي والكثيري/ الضغوط، لينضموا إلى فيدرالية الجنوب العربي، وربما فكروا ملياً في استقلال حضرموت، أو في الانضمام إلى المملكة العربية السعودية إن أمكن. من ناحية أخرى، كانت قوى القومية العربية، التي تتنافس لانتزاعها من البريطانيين، ترى في حضرموت جزءا لا يتجزأ من جنوب اليمن. بدأ النضال المسلح في إبريل/نيسان 1967 من خلال الجبهة القومية للتحرير فقط، وتأسست الجمهورية الشعبية لجنوب اليمن 1967، وقد استفادت الجمهورية الجديدة من النظام الإداري، الذي ورثته عن البريطانيين. لكن كيف تشكّل هذا الوعي القومي، وما هي جذوره. سيكون هذا السؤال محل اهتمام الباحث اليوناني ثانوس بيتوريس المتخصص في تاريخ الحركة المناهضة للاستعمار في الجنوب العربي، إذ سيلاحظ في دراسته ، التي خصصها لتتبع مسارات صناعة الهوية الحضرمية الحديثة، أنه حتى العقود الأولى من القرن العشرين، كان مجتمع حضرموت يتألف من أربع طبقات: السادة، المشايخ (رجال الدين) والقبائليين، وتشمل رجال القبائل المسلحين، سواء أكانوا رحالين أم مستقرين، وأخيرا المساكين وهم سكان المدن الصغيرة غير المسلحة. وكان ثمة خطاب ديني مسيطر حافظ على هذا النظام. وفي الوقت نفسه، كان السادة في وضع يمكنهم من المحافظة على وحدة عقائدية واجتماعية لجماعتهم، بالنسبة إلى بقية المجتمع الحضرمي، من خلال انضمامهم إلى نظام صوفي خاص، وهو طريقة باعلوي، والتطبيق الصارم لمبدأ الكفاءة، الذي منع نساءهم من الزواج بأفراد من أصول مجتمعية أخرى. بيد أن هذا النظام سيشهد تغيرات مع بداية القرن الماضي، وأول هذه التحديات التي واجهت النظام الاجتماعي القائم، جاء من الصراع الإرشادي العلوي المستمر طويلا، والذي نشب في جزر الهند الشرقية الهولندية عام 1905 بسبب زواج عقد في باتافيا (جاكرتا اليوم) بين شريفة ومسلم هندي، وأصبح هذا الأمر ممثلا لحركة أكبر في التعليم والإصلاح الاجتماعي داخل المهجر الحضرمي في جنوب شرق آسيا، وقد ظهرت تلك الحركة استجابة لجهود مشابهة قام بها مصلحون صينيون في جزر الهند الشرقية، وأمام هذه التحولات، كان المهاجرون الحضارمة يتولد لديهم إحساس بعدم المساواة، إلى الحد الذي اتهموا فيه «السادة» بمنع أطفال «المساكين» من تلقي التعليم بعد بلوغ مستوى معين في المدارس التي يديرونها، ولم يكن سلوكاً عرضيا أن جمعية الإصلاح والإرشاد العربية التي نشأت في باتافيا عام 1914، وجمعت في صفوفها العناصر الإصلاحية في المهجر، ركزت في عملها على التعليم، ففي عام 1935 أدارت الجمعية ما لا يقل عن ثلاثين مدرسة في جزر الهند الشرقية، كما شجعت على فتح وتمويل الأندية والمدارس في حضرموت، وكانت نوعية التعليم التي كانت تقدمها المدارس الإرشادية، سواء في أرض الوطن أو في جزر الهند الشرقية، تتجاوز المفهوم الضيق للتعليم الديني التقليدي الذي كان قائما، وكانت موجهة نحو مناهج حديثة سوف تؤهل الحضرميين. وربما كان من أهم سمات هذه الفترة، ظهور الصحافة الحضرمية، بداية في جزر الهند الشرقية، ولاحقا في حضرموت نفسها، ورغم أن لب موضوع صحافة المهجر كان مختلفا عن موضوع صحافة أرض الوطن، فإن عنصرا مشتركا بينهما تمثل في نشر الآراء أكثر من نشر الأخبار في جمهرة من الموضوعات التي تؤثر على الحضرميين والمنطقة الجغرافية الواسعة التي يتعاملون معها، وقد وجدت هذه الصحف طريقها إلى مصر، سمحت هذه الصحف للحضارمة في أجزاء مختلفة، أن يوطنوا أنفسهم على أنهم أفراد ينتمون إلى المجتمع نفسه الذي يصبون إليه، وبذلك نجد أن الاستيلاء التدريجي على مجال الثقافة ساهم في تحديث القوى الاجتماعية في كل من الداخل والمهجر، وهذا ما مثل المرحلة الأولى للمشروع القومي المقاوم للاستعمار، الذي أدى في النهاية تدريجيا إلى سقوط النظام الاجتماعي القديم وسنده الاستعماري جميعا، وقد أعطت هذه التطورات إشارة نهاية «الفترة التقليدية» ومن ثم الانتقال إلى حقبة جديدة من صور النشاط السياسي. كما أن ثمة تطورا آخر ساهم في هذا الأمر، تمثل في تبعات الحرب العالمية الثانية، إذ كانت الدول التي شكلت وجهات الحضرميين نحو المهجر في شرقي المحيط الهندي، تتجه بسرعة نحو الاستقلال، كما صدرت تعليمات صارمة من الدول المستقلة بخصوص الأنشطة المالية لمن عدتهم غرباء، ما تسبب في وقوع كارثة مالية، لعائلات السادة والمشايخ الذين كانت لهم مصالح هناك.
في الفصل الثاني من الكتاب، نعثر على دراسات أثنوغرافية وتاريخية شيقة، فمثلاً يحاول نيكوجي جي كابتيان أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ليدن، التطرق «لأطلس السيد عثمان بن عبد الله بن يحيى» الذي كتبه في باتافيا، كان السيد عثمان قد ولد في عام 1822 في باتافيا (جاكرتا في إندونيسيا) ويظهر اللقب الذي كان يدعى به (العلوي) أنه من طبقة السادة، وكان السيد عثمان الأغزر إنتاجاً بين علماء جزر الهند الشرقية الهولندية، فقد ترك ما يزيد عن 150 عملا منشورا (باللغتين العربية والمالاوية). وكان معد الورقة قد عثر على أطلس في مكتبة جامعة لايدن، كان قد أعده بن يحيى في عام 1883، ويتكون من أربع صفحات كبيرة مطبوعة وخرائط، يُظهر النصف الأول منها الأمريكيتين، وفي الثاني بقية العالم، كما يصور بعضها شبه الجزيرة العربية مع اهتمام خاص بحضرموت، ويبدو أن هذا الأطلس حاز أهمية كبيرة حينها، خصوصا لدى الموظفين الاستعماريين والمستشرقين، ومن بينهم الأكاديمي الشهير فان دن بيرج (1845/1927) الذي عمل مستشاراً للغات الشرقية والشريعة الإسلامية في هولندا، واستخدم استاذ آخر في لايدن ويدعى مايكل جان جوايحي هذا الأطلس، إذ كان لديه اهتمام بجغرافية حضرموت، وحاول لوقت طويل أن يصل إلى معلومات عن موضوعه، ولحسن الحظ تمكن من أطلس السيد عثمان، ولعل ما يلفت النظر في هذه الدراسات، أن الاستشراق، وخلافا لما اتهم به لاحقاً على صعيد مصادره، نجده في تدوينه عن حضرموت قد اعتمد على مصادر محلية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، زاد عدد الجنود في نظام حيدر آباد من خمسة آلاف إلى ستة آلاف فرد، كان بينهم ألفان إلى ثلاثة آلاف من اليافعيين، ولمعظمهم ارتباطات بالحضرموتيين؛ لاحقا شارك الحضرموتيين في الحرب العالمية الثانية في كينيا
ومن بين الدراسات الغنية في هذا الفصل أيضاً دراسة (كازوهير اراي/ جامعة كايو في اليابان) التي حاول فيها دراسة شبكات الصوفية الحضرموتية عبر المحيط الهندي في عامي 2014 -2015، فمع اندلاع الحرب في السنوات الأخيرة في اليمن، اضطر قسم كبير من الطلاب الإندونيسيين إلى العودة لبلادهم، لكن ذلك لم يقطع العلاقات، إذ عرفت إندونيسيا زيارة عدد من رجال الدين الحضرموتيين، ومنهم السيد عمر بن محمد بن حفيظ، الذي يعد أشهر شخصية دينية من حضرموت في العصر الحديث، إذ قام في السنوات الأخيرة، بزيارة إندونيسيا وبلاد أخرى في جنوب شرقي آسيا بشكل منتظم، وتبدأ الزيارات في «حول» الشيخ أبي بكر بن سالم 1513/1584، ويقام الحول في يوم أحد من شهر محرم، أي الشهر الهجري الأول في حي تشيدودول في جاكرتا. كان أبو بكر حكيما صوفيا ذائع الصيت توفي في قرية عينات في حضرموت. ورغم أنه لم يزر جنوب شرق آسيا، إلا أنه يحظَى باحترام هناك. كما رصد الباحث ظاهرة الاهتمام في المكتبات الإندونيسية بالكتب التي تتحدث عن الشخصيات الدينية الحضرمية، ولعل أحد أكثر هذه الكتب شعبية كتاب 17 حبيبا مؤثرا في إندونيسيا. ويضمّ هذا الكتاب، الذي نشر لأول مرة في 2008 وأعيد طبعه 11 مرة حتى عام 2013 سبع عشرة سيرة قصيرة لعلماء من سلالة النبي ممن لهم تأثير في إندونيسيا. من بينهم 16 من أصــل حضرمي عاشوا في مدن مختلفة.
سيوف معقوفة
نعثر في أحد الفصول على قراءة فريدة حول ظاهرة المقاتلين الحضرموتيين في القرن الثامن عشر، والرابط الذي يجمع هؤلاء بالجهاديين في القرن العشرين من أمثال اسامة بن لادن (الحضرموتي). ويبين معد الورقة جيمس سبنسر/ جامعة درهام البريطانية، أن بعض دول شرق آسيا حاولت الاعتماد على بعض المقاتليين الحضرموتيين في معاركها، ومن أهمها حيدر آباد. كان العرب قد وصلوا إلى حيدر آباد عام 1797، لكن أوائل الحضرموتيين وصلوا إليها في عام 1817 بعد سقوط امبراطورية الماراثا، إذ وفر النظام الجديد فرص لهم للعمل كمقاتلين، وكان أحد الجنود الذين استفادوا من هذا العرض هو عمر بن عوض القعيطي. والقعيطي، إحدى القبائل الأعضاء في اتحاد الموسطة في أعالي يافع، ولليافعيين تقليد منذ زمن بعيد أن يؤجروا أنفسهم مرتزقة. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، زاد عدد الجنود في نظام حيدر آباد من خمسة آلاف إلى ستة آلاف فرد، كان بينهم ألفان إلى ثلاثة آلاف من اليافعيين، ولمعظمهم ارتباطات بالحضرموتيين؛ لاحقا شارك الحضرموتيين في الحرب العالمية الثانية في كينيا، ومع الانسحاب الاستعماري، اضطر المقاتلون في حيدر آباد إلى الانسحاب عن طريق بومباي، وقد تزامنت هذه الحقبة مع التنمية التي أدت إليها اكتشافات النفط في الخليج، ولذلك توجه كثير منهم إلى هناك، وحصلوا على وظائف فنية وإدارية، ومع أواخر السبعينيات، كان أبناء هؤلاء يلتحقون من جديد بالخدمة العسكرية، إما عبر شرطة الإمارات وقواتها، أو عند القطريين الذين اعتادوا توظيف بعض اليمنيين في شرطتهم وجيشهم. أما اللافت للنظر، بالنسبة للباحث، أنه بعد هذا الانضمام بسنوات سيبرز من جديد مقاتل عابر للحدود، من أصول حضرموتية، وهو أسامة بن لادن. كما أن كثير من الأفغان العرب الذين حاربوا مع المجاهدين ضد السوفييت في أفغانستان كانوا من اليمن، والبعض منهم مثل طارق ناصر الفضلي، كانوا شيوخاً سابقين للقبائل في الجنوب، وكانوا يبحثون عن الثأر من الشيوعيين. كما يلاحظ المؤلف أن قسما كبيرا من مقاتلي «داعش» في العراق كانوا من حضرموت، وأن غالبية هؤلاء المنخرطين كانوا يرفضون القيام بعمليات انتحارية وإنما كانوا يفضلون القتال، وبذلك نجد أن ظاهرة المقاتلين العابرين للحدود اليوم في حضرموت (الممثلين بتنظيم «القاعدة») ليست جديدة على هذا الإقليم، بل لها جذور تعود للقرن الثامن عشر، بيد أنها كانت تظهر بأشكال مختلفة لتناسب توجهات كل مرحلة.
وفي الكتاب أيضاً دراسات عن الحضرموتيين في الفلبين وكينيا وسنغافورة ومومباي، وكلام كثير عن أهل هذا البلد وشبكاته عبر المحيط الهندي، لدرجة يصل فيها القارئ وهو ينهي صفحاته إلى القناعة بأن هذا الأطلس الأثنوغرافي قد يكون من أهم الكتب التي صدرت خلال الأعوام الفائتة، ليس عن إقليم في اليمن فحسب، بل عن مدننا العربية عامة.
المصدر: القدس العربي