عن أي وطن نبحث إذاً؟
الاوطان تبنى بعقول عظيمة، سلاحها الافكار، ادواتها مأخوذة من العلم والتجارب الانسانية العظيمة، محترمة باحترام السلمية، رفض العنف، والتحلي بالقيم والمبادئ واخلاقيات الدولة المنشودة، تسير بثقة في مواكبة العصر لتكن امة محترمة كسائر الامم المتطورة.
والعقول العادية تنشغل بالأحداث، وتشغل المجتمع والنخب في متاهات تلك الأحداث، فيها يرى كلا انه على حق، والاخر مخطئ ومدان، دون مرجعية قانونية ولا بحوث علمية، تخندق في زوايا عقيمة، وخيارات ضياع الوطن والهوية، بين القبيلة والعشيرة والطائفة والايدلوجيا، وطن فاقد للقيمة والفكرة، مجرد جغرافيا تتعرض للتقاسم بين الخصوم بالعنف.
وعقول صغيرة تتحدث عن أفراد، تعظم ذاتهم عن الوطن، وتعبدهم كأوثان، و تهتف بكل غباء نحن اشبالك وافكارك لنا مصباح، وتصنع هالة من الخوف، خوف نقد الشخصية وانتقاد المواقف والقرارات، في طاعة عمياء، تسلم وطن لطاغية ودكتاتور، لا يأمن حياته لغير ذوي القرباء والعصبة والعرق والسلالة، ولا يغمض له جفن، دون حراسات مدججة بكل الاسلحة الفتاكة، تدمر كل من تسول له نفسه يقدم النصيحة والرأي والتوجيه بحسن نية.
وكلها خيارات، تبدأ واسعة، بسعة الافق والوعي، والعلم والتجربة، واستخلاص دروس وعبر الماضي، وتجاوز ماسي و اوجاع ذلك الماضي، تتعرض للسطو من قبل حماس غير واعي، وعقل مرهون للألم والوجع، بأفق ضيق زُج بنفسه في متاهات الماضي، غاص في أحداثه الاليمة، وغابت عنه الافكار الايجابية، يدفع لمزيد من السلبية القاتلة، وتأجيج ثارات وأحقاد، ينتقيها بعناية من التراكمات، معززا الكراهية، لتعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي، الكفيل بالانهيار، وتكتمل حالة الانهيار التام لوطن عندما يرفع العلم بمحاذاة صورة الزعيم المفدى، والتفويض الغير مشروط، تفويض شارع فقد الأمل، باستغلال حماسه وتطلعه في حشد فوضوي، يسود فيه الصراخ والشعارات، ويفتقد لضوابط القيم والأدبيات وأخلاقيات الحلم، والدولة التي ينشدها الجميع.
هل تساءلت عن أي وطن تبحث؟ وطن لك ولجماعاتك ويلبي قناعاتكما، أم وطن يجمعك مع الآخرين في تعايش وسلام، بحفظ حقوق وحريات الجميع، وطن العدالة، والدولة الضامنة للمواطنة، وهناك فرق بين وطن للعيش كأخوة، ووطن حلبة صراع كأعداء، و علينا أن نختار، اختيار شعبي يحتاج لملعب سياسي نظيف منضبط، و صندوق انتخابي نزيه ليقول الناس رأي الإجماع.
الإرادة الشعبية، ترفع من شأن وطن وسيادته وكرامة مواطنيه، وبدونها يداس بأقدام الطغاة والطامعين، بين أن يكون مأوى للنجاح والتفوق والاحترام، وبين مأوى للفشل والعجز، ليكن وكر للانقلابات، وجحيم الصراعات، ونزيف الدم، دون ان تندى جبين ولا ضمير إنساني فيه.
اكثر الما لوطن صار فيه الاجتثاث للأخر مفاخرة، لا علاقة له بالعلمانية كفكرة وقيمة، ولا بالعقيدة كمعنى، كلها مجرد أوزار على كاهل الاخر، واستيراد افكار، وبندقية ماجوره، لإهانة وطن، تُداس القيم والادبيات، يفرغ كلّ كلامٍ من حمولته، يصبح هدف الفردٍ فيه أن يحصل على وطنٍ يناسب قياساته، لنبقى عالقين عند تلك النقطة، حيث لا وجود لنظام حكمٍ يستوعب ما لدينا من أفكارٍ ومعتقدات.
رؤى اخرجناها من عتمة التاريخ، وأخرى قصصناها لتناسب احجامنا، عن مّاذا نبحث؟ أيّ وطن نريد؟ يظلّ هذا السؤال يلاحقنا، يضغط بوطأته علينا، يضعنا أمام مطرقة الفشل وسندان الضياع، كلّ فردٍ يشدّ بالوطن ناحيته، يقاتل أخاه حتّى ينال الحظوة والانتصار، بخساسة نطفئ بريق الثورة، ونقدم وطن للبيع في سوق النخاسة، بسلوك الدروب الملتوية، والمساومة الانانية، نحمل معاول الهدم وتدمير سبل الحياة والعلاقات، عن أي وطن تبحث إذا؟