عربي ودولي

تسريد التاريخ وشعرية اللغة: دراسات في الرواية العربية  

ابراهيم خليل 

بعد إصداراته «ظواهر حديثة في شعر المقاومة « 1996 وقبله «ديوان الانتفاضة» 1991 و»وَهَجُ القصيدة – دراسات في الشعر المقاوم» 2009 و»الحساسية الجديدة ـ دراسات في القصة القصيرة» 2017 و»الشعر في الدوريات المصرية من 1828- 1882 دراسة وتوثيق» 1987، وتحقيق ديوان علي بن المقرَّب العيوني وشرحه في جزأين 1984، تصدر للأكاديمي الأردني أحمد الخطيب دراسة جديدة بعنوان «تسريد التاريخ وشعرية اللغة – دراسات في الرواية العربية» (دار الدراويش بلوفديف ـ بلغاريا 2019).  

والخطيب كغيره من الأكاديميين لا يعنيه التفريق بين الرواية واللارواية، فهو يدرج كتاب «بنات الرياض» لرجاء عالم مع الروايات، وفي ذلك نظر. والروايات التي دُرست في الكتاب تمثل توجُّهات عدة، أولاها رواية تاريخية إسلامية، وهي رواية «الحلاج» لعباس أرناؤوط الصادرة عام 2010، وهو روائي فلسطيني، ومخرج تلفزيوني، وكاتب قصة قصيرة، وله روايتان أخريان هما «الصوت يناديني»، و»الطواحين وأنا». والرواية التاريخية الثانية هي رواية (يحيى) للأردنية سميحة خريس الصادرة في عمان 2010 وقد ساقها المؤلف الخطيب في عداد الروايات التاريخية، التي يقف فيها مؤلفوها عند مجريات قريبة من عصرنا كملحمة «الحرافيش» لنجيب محفوظ، و»مدارات الشرق» لنبيل سليمان، لكنه يذكر إلى جانب هاتين الروايتين «ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور، وهي رواية تعود بنا إلى زمن سقوط عاصمة الأندلس، وتهجير مسلمي الجزيرة للمغرب، ما يعني أن هذا التصنيف غير دقيق، ولا يتفق مع ذكره لرواية رضوى عاشور، فأحداث هذه الرواية – أي رواية خريس – تقع وتجري في العصر الذي خضعت فيه البلاد للعثمانيين، بدليل أن بطل الرواية ولد مثلما تذكر المؤلفة في الكرك عام 1575، ويتناول الخطيب رواية ثالثة هي «أوراق معبد الكتبا» لهاشم غرايبة، وهي أقل من أن توصف بالرواية، تليها رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الإسواني. وهذه الرواية تبدأ حكايتها ببناء العمارة في قلب القاهرة نحو عام 1934، وبهذا تكون مجرياتها قريبة العهد من مجريات رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ، وبناء على ذلك لا تستحق هذه الرواية أن توصف بالرواية التاريخية، ولا شبه التاريخية.  

على أنَّ المؤلف الخطيب، في هذا الفصل من الكتاب، عدل عن طريقته المتَّبعة في بقية الفصول. فبعد فقرة أشادت بالرواية، سارع للحديث عمّا سمّاه تقنيات متعددة، زاعما أن الإسواني يعبر تعبيرا دقيقا بوساطة الحوادث المحكية، والشخصيات السردية، عن انهيار الطبقة الوسطى، واختلاط القيم، والمفاهيم الاجتماعية، اختلاطا تجسَّد على نحو ملموس في تلك التغييرات التي أحاطت بتلك العمارة، وبمن يقيمون فيها، سواء من كانوا من السابقين أو اللاحقين. فهي رواية تعبّر عن ترهل الارستقراطية العريقة في مصر، فلا يجد لها القارئ إلا ظلالا شائهة، متخبطة، تزاحمها شرائح من الصعاليك، وأراذل الناس، الذين لا ذخيرة لديهم سوى الرشوة، وتعاطي المخدرات، والشذوذ الجنسي.  

 بتول الخضيري  

 فالإسْواني، في هذه الرواية، يقول ما لا يُقال، في رواية هي ـ في رأي المؤلف- متقنة البنية، رصينة، وحداثيَّة، ولا يبخل فيها الكاتب على القارئ بالمونولوجات الكثيرة، ولا بالاستدعاءات من الذاكرة، واللافت في «تسريد التاريخ» تلك التحليلات النقدية المتأنية، والعميقة، لرواية بتول الخضيري من العراق، «كم كانت السماء قريبة» (1999) ففي هذا الفصل يتجنب الخطيب فكرة الربط بين الرواية والتاريخ، فنجده بُعيْدَ أن يشيد بها، ينتقل فورًا لتأمل التقنيات السردية بادئا بما يسميه التتابع السردي. ويعني به السرد الملتزم بالتسلسل الزمني، فالفطور يسبق الغداء، والغداء يسبق العَشاء وهكذا.. وهو الذي يشار إليه بمصطلح chronicle ، لكن المؤلف يتحرَّزُ من ذلك مشيرًا لضرْب آخر، ونسق ثانٍ من السرد إلى جانب التتابع، وهو السرد غير الخطي، أي: المتكسر، الذي يسمح للراوي بالمراوحة في الزمن time shifting، ومثل هذا النسق يحتاج لآليات كالمونولوج، وتيار الشعور، والتداعي، وهذا ما يتكرر في الرواية كثيرًا.  

 نحن نقول: إن من يشترط هذه الشروط في لغة الرواية الجيدة، عليه أن يبحث عنها في عالم اللامعقول، لأن مثل هذه الشروط لا تقبل بها الألباب، ولا ترتضيها العقول.  

 وهذه الطريقة في السرد ليست سهلة على كاتبة تخوض تجربة الكتابة الروائية للمرة الأولى، ولذا يرى الخطيب أنَّ الحشو هو أحدُ المزالق التي تقع فيها الكاتبة، ومثال ذلك السرد المطول الذي استرجعت فيه مشاهد العزاء للمتوفى (أبو نضال) ففي اعتقاده نستطيع أنْ نحذف جلَّ ما ورد من ص 82 – 86، بدون أن يختلَّ شيءٌ في الرواية، أو يفقد القارئ الشعور بتواصل ما قبله بما بعده.  

والتوازي آليةٌ أخرى لجأت إليها بتول الخضيري. وهو أنْ تروي الساردة حدثين متزامنين يقعان في مكانين مختلفين، وهذا الشكل يتكرر بوضوح في نصف الرواية الثاني، ويغيب في نصفها الأول. علاوة على هذا يقف بنا المؤلف على تقنيات أخرى يعد الراوي واحدًا منها. فالراوي قد يكون أحد شخوص الحكاية، وقد يكون من خارجها، ولا دور له فيها، ولا علاقة له بالحوادث أو بالشخوص. وهو الذي يُعرف بالراوي العليم، وحديث المؤلف عن هذا الجانب لا يخلو من خلط يحتاج لإعادة نظر، فهو يذكر أن الراوي المشارك، وهو الذي يروي مستعملا ضمير المتكلم، يُكْسب الرواية مزيدًا من الثقة، والمصداقية، والحرارة الذاتية. والمعروف أن الراوي العليم هو الذي يوصف بالثقة، وهو الذي لا يُشكّ في صحَّة ما يرويه، أما الراوي المشارك، فقد يروي أخبارا كاذبة، لأغراض في نفس يعقوب، ولهذا لا يوثق بروايات الراوي المشارك، قدر الوثوق بروايات الراوي العليم. ولا ريب في أنَّ الاقتباس من كتاب عبد الملك مرتاض (في نظرية الرواية) 1998، هو الذي ضلل المؤلف. فقد أورد اقتباسًا من الرواية تقول فيه الساردة: «انتظرت لمدة ساعة في الكافتيريا أرقب طفلا يلهو..» ثم علق على ذلك تعليقا عززه باقتباس من عبد الملك مرتاض، يجعل من هذا السرد ضربًا من السيرة الذاتية، وفي موقع آخر يتحدَّث عما في الرواية من تعدُّد في الأصوات، مع أن هذا يتعارض مع تصنيفه للراوي بالعليم تارة، وبالمشارك تارة أخرى، لأن رواية تعدد الأصوات تقوم على تركيب مختلف تحظى فيه كل شخصية بدورها في رواية الأحداث من وجهة نظرها الذاتيَّة. فكل شخصية منها تنهض بدور الراوي، وهي تؤدي – في الأثناء- دورها في الرواية. ومما ينم على ما في هذا الجانب من وهم، قوله تعليقا على حديث الساردة عن شارع (همر سميث) في لندن: حين نتأمل هذا نلاحظ أن الراوي العليم المحايد لا ينقل الحدث أو الشيء نقلا مطابقا لوجوده، «فالقارئ لا يؤيد المؤلف في هذا التصنيف» راوٍ عليم «لأن الفقرة استعملت فيها الساردة ضمير المتكلم لا الغائب.  

ويعقّب المؤلف على ما سبق من ملاحظات، قائلا: إنها رواية عابرة للأنواع، ففيها شيءٌ من السيرة، وشيء من المونتاج السينمائي، وشيءٌ من الفنّ التشكيلي ـ أحد شخوص الرواية نحّات عراقي ـ ويُعدِّد لنا الخطيب بعض الروايات التي تلتبس بالسيرة، مؤكدا على أنّ في رواية بتول الخضيري دلائلَ على هذا الالتباس، بيد أنه لم يذكر لنا من حياة المؤلفة الشخصية ما هو مشترك بينها وبين بطلة الرواية، ليؤكد أنها سيرة، ولذا يظل وصفه هذا من باب الظنون، لا أكثر، ولا أقل.. وليس هذا وحسب، بل إن المؤلف زاد على ذلك جاعلا من الشعرية سمة لافتة لهذه الرواية. فالكاتبة بتول الخضيري تختلف عن غيرها من الكتّاب، بامتلاكها أسلوبا يجعل من نسيج المحكيات السردية نسيجًا شاعريًا، يقرّبها من القصائد. وهذا صحيح في المُجمل، بيد أنَّ المؤلفة – في الواقع ـ تقترب بلغة الرواية من القصة القصيرة في مواضع شتى. والنص نص «الأرجوحة» الذي اقتبسه الخطيب، يؤكد لصوقها بالقصة القصيرة، لا بالشعر. وقد أفرط المؤلف في الاقتباس من كتاب عبد الملك مرتاض «في نظرية الرواية» إفراطا يجعل الفائدة ضررا، والإفراط تفريطا، وتحولت مناقب الاقتباس إلى مثالب الالتباس. فهو يقتبس منه اقتباس من يجاريه، ويشاطره الرأي، قوله عن شروط لغة الرواية الجيّدة «إذا لم تكن لغة الرواية شعرية، أنيقة، رشيقة، عبقة، مغردة، مختالة، مُتَرَهْيئة (كذا) متزينة، متغجّرة، لا يمكن إلا أن تكون لغة شاحبة، ذابلة، عليلة، كليلة، حسيرة، خلِقة، بالية، فانية، وربما شعْثاء، غبْراء». ونحن نقول: إن من يشترط هذه الشروط في لغة الرواية الجيدة، عليه أن يبحث عنها في عالم اللامعقول، لأن مثل هذه الشروط لا تقبل بها الألباب، ولا ترتضيها العقول.  

  نقلا عن القدس العربي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى