دوستويفسكي.. في” ذكريات من منزل الأموات”
يعد الكاتب فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي أحد أبرز الأدباء العالميين، وقد ولد في روسيا بمدينة موسكو عام 1821م وتوفي بمدينة بطرسبرج عام 1881م، ومن أبرز أعماله الأدبية الجريمة والعقاب، والشياطين، والإخوة كرامازوف، وذكريات من منزل الأموات، وتسمى كذلك بيت الموتى، وينتمي إلى المدرسة الواقعية، وتخرج من كلية الهندسة، ووالدة كان طبيبا عسكريا، ينحدر من فئة رجال الدين، ومنح لقاء استقامته في الخدمة لقب نبيل.
وئام عبدالملك/ يمن مونتيور
يعد الكاتب فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي أحد أبرز الأدباء العالميين، وقد ولد في روسيا بمدينة موسكو عام 1821م وتوفي بمدينة بطرسبرج عام 1881م، ومن أبرز أعماله الأدبية الجريمة والعقاب، والشياطين، والإخوة كرامازوف، وذكريات من منزل الأموات، وتسمى كذلك بيت الموتى، وينتمي إلى المدرسة الواقعية، وتخرج من كلية الهندسة، ووالدة كان طبيبا عسكريا، ينحدر من فئة رجال الدين، ومنح لقاء استقامته في الخدمة لقب نبيل.
ويعد عمله الأدبي ( ذكريات من منزل الأموات) والذي بدأت مجلة” العالم الروسي” بنشر أجزاء منه عام 1860م، من أبرز أعماله، وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات.
وكما تشير العديد من المصادر إلى أنه تم القبض على دوستويفكسي عام 1849م بعد تشكيله وجماعة من المثقفين جماعة شبه سرية، تأثرت بأفكار الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه الاشتراكية ودعواته إلى تغيير المجتمع، وحكم على دوستويفسكي بالإعدام، لكن في آخر لحظة قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه، صدر مرسوم قيصري يقضي باستبدال الإعدام بأربعة أعوام من الأعمال الشاقة في منفاه بمقاطعة أومسك بسيبيريا، وقد كان خوضه لتجربة الإعدام أثرا نفسيا عميقا لديه، وكانت ظروف سجناء الفئة الثانية التي كان من ضمنها، أقسى من ظروف الفئة الأولى والثالثة، لأنها كانت تخضع لإدارة وتنظيم عسكري كما يوضح ذلك دوستويفسكي.
وفي الترجمة العربية عن اللغة الفرنسية لـ” ذكريات من منزل الأموات” التي قام بها الدكتور سامي الدروبي عام 1967م، ذكر بأن دوستويفسكي قد بدأ تدوين انطباعاته في سجن” أومسك” نفسه، وظلت المذكرات التي دوَّنها مخبأة زمنا طويلا، لدى أحد موظفي المستشفى، ثم عمل دوستويفسكي في كتابة هذه المذكرات بمدينة سيميبالاتنسك ، إلا أنه لم يستطع أن ينجز هذا العمل إلا حين عودته إلى العاصمة.
وتدور الاحداث في هذا الكتاب على لسان ( الكسندر بتروفتش جوريانتشيكوف)، وهو من سراة الملاكين في روسيا، وقد حكم عليه بالأشغال الشاقة من الفئة الثانية، لأنه قتل زوجته، وحكم عليه بعشر سنوات من الأشغال الشاقة، وهذه العقوبة آنذاك تكون في العمل في بناء القلاع التي كانت تشيد في سيبيريا للسيطرة على حركات التمرد والعصيان، وهذا الكتاب هو في الواقع- كما يقول النقاد- يحكي تجربة خوض دوستويفكسي للسجن، لكنه كان على لسان جوريانتشيكوف.
وبدأ دوستويفسكي كتابه( ذكريات من منزل الأموات) بوصف تضاريس” سيبيريا”، وذكر بعض تفاصيل الحياة هناك، كالمنازل والسكان الذين يصفهم بأنهم أناس بسطاء، لا تعصف برؤوسهم الأفكار الليبرالية، ولهم عادات قديمة، ووصف الموظفين بأنهم الذين يمكن أن يُطلق عليهم بالطبقة النبيلة في سيبيريا.
ويصف السجن الذي عاش فيه أسوأ أيامه بأنه” عالم خاص جدا، لأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء، هو عالم له عاداته وله زيه وله قوانينه وكل ما فيه خاص، إنه منزل ميت حي معا” إذ احتاج إلى ما يقرب السنة حتى اعتاد على السجن، وهو يقول:” بأنه سيظل ينظر إلى تلك السنة الأولى على أنها أفظع سنين حياته”، بسبب الطعام الذي كان يتكون من حساء الكرنب والخبز، وكان السجناء يتغنون بأغنية عن الطعام تقول:
(طعامي حساء الكرنب، مطبوخا بالماء ألتهمه وأتلمظ).
ولأنه كان سجينا سياسيا، وسجن مع عموم المساجين، الذين ارتبكوا العديد من الجرائم، ففاقم هذا الأمر من معاناته، كما أن السجناء كانوا ينظرون إليه لكونه أحد النبلاء بازدراء، وبأنه ضعيفا ولا يتمتع بالقوة التي يتمتعون هم بها، وكان جو السجن خانق، ففي كل غرفة كان يوجد أكثر من ثلاثين سجينا، كما أن الحشرات والهوام كانت تتكاثر في فصل الربيع، وتزيد من معاناتهم، وعمل جوريانتشيكوف في نفل الآجر الذي يستعمل في البناء، وفي الورش، أو في تكسير الجص، ووصف الحبل الذي كان يحمل به الآجر بأنه كان ينشر كتفه نشرا، ولكن ما أسعده هو أن قواه نمت نموا كبيرا، فلقد كان من النبلاء، ولم يكن معتادا على العمل بمثل هذه الخشونة من قبل، وعلى الرغم من معاناة السجناء، إلا أنهم كثيرا ما كانوا يحاولوا أن يصنعوا الفرح، كالاحتفال بأعيادهم.
هذه المذكرات التي ينسبها دوستويفسكي إلى جوريانتشيكوف، وهي تحكي عن التجربة التي عاشها دوستويفسكي واقعا في السجن، تميزت بالصدق، ولأن الكاتب هو من عاش أحداثها استطاع أن ينقل للقارئ تفاصيلها الدقيقة، فتفاعل القارئ مع العمل الأدبي، وعملت مخليته على جعله مشاركا في الحدث، وتمكن دستويفسكي من ترجمة مشاعره إلى كلمات، وتميز هذا العمل كذلك بالبساطة، ونقل الواقع بتجرد، وكان عين الواقع، وأسلوبه في السرد كان قريبا جدا للقارئ، فكان كمن يتحدث لآخر، ينتقل في سرده من حافظته من شخصية لأخرى، ثم يتحدث عن شخصية سجين آخر، ليعود ويذكرنا بالشخصية التي ذكرها من هنيهات.
وأثرت هذه الرواية كثيرا في قرائها، فلقد نجحت في نقل معاناة السجناء إلى القارئ، وعن ذلك يقول الدروبي بأنها جعلت دموع الاسكندر الثاني تهطل على صفحات الكتاب.
وكشفت الرواية عن عبقرية الكاتب، وقدرته على التحليل النفسي، وسبر أغوار النفس البشرية، وكان لها أثرا سياسيا، تمخض عنه صدور قانون ١٧ أبريل/ نيسان ١٨٦٣م الذي الغى العقوبات الجسدية في السجن، والتي تحدث عنها بدقة دوستويفسكي في روايته.
ومن العقوبات التي تحدث عنها الكاتب، والأكثر إثارة للسجناء وإيلاما، هي عقوبة الجلد بالسياط، والتي كانت تصل حتى إلى أربعة آلاف جلدة، كالتي تعرض لها أحد شخوص الرواية الثانويين ويدعى الكسندر، ويصف الكسندر الضربات الألف الثالثة بأنها كانت كسكين تخترق قلبه.
ولشد ما كان السجناء يرهبون هذا العقاب كانوا يرتكبون أي جريمة بحق رؤسائهم أو زملائهم، لتعاد محاكمتهم، وليرجئوا تنفيذ العقوبة بضعة أسابيع أو أشهر، وبعض السجناء كانوا يطالبون بمغادرة المستشفى قبل أن تلتئم جراحهم، لينفذوا فيهم ما تبقى من العقوبة، فالبقاء في مقر الحرس أسوأ من أية أشغال شاقة، كما يقول دوستويفكسي.
ووصف السجين الذي ينتظر أن تنفذ فيه باقي العقوبة بعد اندمال جراحه، بأنه يكون قاتم الوجه وصامت، ويلاحظ فيه نوعا من الانصعاق، وضربا من الذهول، كما ذكر كذلك بأن الذين يتعرضون كثيرا للعقوبة تقسوا نفوسهم وظهورهم، فينظرون إلى العقوبة على أنها انزعاج عابر.
وقدم دوستويفكسي تحليلا عميقا لنفسية السجين، وبعض تفاصيل حياتهم هناك، فهو يقول بأن أغلب السجناء يسرقون، كما أن أكثر السجناء يصرخون أو يتحدثون وهم نائمين، ويستغرب الكاتب من عدم حقد السجناء وهم يصفون العقوبات التي تعرضوا لها، والرؤساء المكلفين بإنزالها فيهم، ويصفهم بجملة( الطيبة الخارقة)، ولكن هناك من كانوا يتألمون نفسيا ويشعرون بالحقد، جراء تعرضهم لتلك العقوبة، ويتعجب من أن السجين كان بعد تنفيذ العقوبة فيه نادرا ما كان يسمع أحدهم يئن أو يتألم.
وتحدث عن أن” بعض السجناء يفقدون الإحساس حين يجيئون على ذكر جرائمهم”، وبأن” أماني السجناء كلما كانت أقرب إلى الاستحالة، وكلما كان السجين يعترف لنفسه باستحالتها اعترافا أوضح، كان يحرص على دفنها في أعماق نفسه مزيدا من الحرص، دون أن يستطيع التنازل عنها والزهد فيها”.
وفي ثنائية العقاب والجريمة يذكر كذلك” بأن ما يساهم في تسويغ جريمة السجين في نظر السجين، لإنه يعتقد بأن البيئة التي ولد فيها وعاش لا تدينه، فهو واثق بأن أغلب الطبقة الدنيا من الشعب لن تحكم عليه بأنه ضاع ضياعا نهائيا، إلا أن تكون جريمته التي ارتكبها جريمة في حق أناس من هذه البيئة نفسها”.
ويصف الجلاد بإرادته بأنه أكثر انحطاطا من كل النواحي من الجلاد المأجور، إذ كان هناك بعض الجلادين من يستمتعون بتنفيذ العقوبة، ويلحقون أذى كبيرا في نفوس السجناء.
وحرص دوستويفكسي على أن يذكر كذلك العديد من الجوانب الإنسانية لدى السجناء، كتعلق السجناء ببعض الحيوانات في السجن كالحصان، الذي كان يستخدم في بعض الأعمال في السجن، ويحترم الكاتب الأديان ففي حديثه عن بعض الممارسات الدينية لدى نزلاء السجن، تحدث عنها باحترام وتقبل الآخر المختلف.
ويقول: ” لعل استياءهم من أنفسهم، هو سبب ما يلاحظ في العلاقات اليومية بين السجناء، من فقدان التسامح وشدة التعصب وقسوة السلوك وكثرة السخرية”، والأخيرة هي أكثر أشكال المشكلات التي كانت تحدث في السجن بين السجناء، دون أن تصل بينهم إلى الاشتباك بالأيدي.
هو يذكر قطعا بأن “الذين لم يكونوا قد فسدوا قبل السجن، فإنهم ما يلبثوا أن يكونوا كذلك فيه، وهو بذلك يشير إلى أن السجن في العديد من الحالات لا يُصلح، فخلال سنوات لم يلحظ أي علامة من علامات الندم لدى السجناء، فهم يشعروا بأن من حقهم أن يفعلوا ما يريدون”.
“والإنسان في الحكم على الجريمة أعقد مما قد نتوهم، ومن الثابت المحقق، أنه لا السجون ولا المعتقلات ولا نظام الأشغال الشاقة ولا شيء من هذا كله قادرا على إصلاح المجرم، فهذه العقوبات لا تزيد عن أن تنزل قصاصا في المجرم، وأن تقي المجتمع من جرائمه”، كما أنه يقول بأن السجن يعلم الصبر، ولم ينسَ أن يذكر بأن هناك مساجين يعدوا كنوزا ثمينة.
إن الأعمال الأدبية الرائعة، هي من تجعل للكاتب والعمل خلودا، ودوستويفسكي ما زال حيا بأعماله بين قرائه، ونتذكره روائعه حتى يومنا هذا.