تجديد الفكر والنهضة
للتجديد الفكري في كل أمة من الأمم علاقة مباشرة وغير مباشرة بنهوضها، ذلك أن كل أمة من الأمم المتخلفة يوجد في ثقافتها ما يكون عائقاً أمام نهوضها وتقدمها، إما بسبب خطأه أو بسبب تقادمه، ومن ثم فهي بحاجة لدراسة أفكارها لإزاحة المفاهيم والأفكار التي تعيق نهوضها، وتطوير ما يمكن تطويره منها.
إن عملية تجديد الفكر لكل أمة من الأمم أشبه بتحديث برامج الكمبيوتر التي أصابتها الفيروسات فأثقلتها وتباطأت حركتها، وربما أوقفتها عن العمل، فيكون الجهاز بحاجة لمكافح فيروسات، وبحاجة لتحديث البرامج القديمة كي يكون أسرع في تشغيل البرامج.
والتجديد الفكري لكل أمة من الأمم يهم كل فرد فيها، ويطال كل مكون من مكونات ثقافتها، ويأتي على رأس هذه المكونات الفكر الديني، الذي يعد أهم مكون للثقافة في المجتمعات، وخاصة في مجتمعاتنا الإسلامية، حيث الفكر الديني هو الأساس في تكوين ثقافتها وطريقة تفكيرها.
إن تجديد الفكر الإسلامي ليس خاصاً بالمتدنيين في هذه المجتمعات دون غيرهم، بل وليس خاصاً بالمسلمين دون غيرهم، وإنما يهم ويخص كل فرد يعيش في هذه المنطقة ويتأثر بثقافتها، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ولذا وجدنا شخصيات اشتغلت على تجديد هذا الفكر رغم أنها من خارج العقل الإسلامي، بعضهم يعود لأصول مسيحية ولكنه يرى أن ثقافة مجتمعه إسلامية وبالتالي لابد من تجديدها لأجل النهوض.
إن حركة التجديد هي العملية الأجدى والأقوى في تحريك العقل الإسلامي المعاصر نحو النهوض والتنمية، أما دعوات تجاوز الفكر الإسلامي تماماً فهي عبث وخفة لا يقولها مفكر درس جيداً تجارب الأمم والشعوب في تعاملها مع ثقافتها وفكرها.
الفكر الإسلامي هو ما أنتجه العقل الإسلامي من أفكار ومعارف في إطار المبادئ والقيم الإسلامية، والتجديد لهذا الفكر يدور حول خمسة معان: أولها التأصيل: أي إعادة الفكرة إلى أصلها وجذورها، وثانيها التكميل: أي تطعيم الفكرة بشيء هي في حاجة إليه حتى تكون جديدة، وثالثها التنخيل: أي غربلة الفكرة وتصفيتها مما ليس فيها، وإزالة الشوائب حولها، ورابعها التشغيل: أي تفعيل العمل بالفكرة وتحريك الجوانب المعطلة فيها، وخامسها التبديل: أي استبدال فكرة بما هو أجدر منها في بلوغ المقصد، وأحسن منها في تحقيق المطلوب.
تبدأ خطوات التجديد الفكري بإعادة قراءة الجزئيات التي يراها الباحث غير معقولة أو غير واقعية أو تتصادم مع مصلحة المجتمع بشكل واضح، يعود إلى الأصول ليعرف مكان تلك الجزئية في الفكر الديني، هل هي في مناطق المرونة أم الصلابة؟ هل في مناطق الظن أم القطع؟ فإن كانت في مناطق الظن أولّها أو ردّها فكلا الأمرين مقبولان، وإن كانت في مناطق القطع الثبوتي اكتفى بتأوليها فقط، والتأويل هنا قد يأخذ مناهج متعددة ربما لا تتضح في البداية من خلال بضع جزئيات.
بعد أن يمر على أغلب الجزئيات التي حولها إشكال يبحث في الرابط بين تلك المشكلات والرابط بين الحلول، فإن وجد خيطاً أو خيوطاً مشتركة في الأسباب وفي الحلول فإن هذا يعني أنه أمام نظرية جديدة تتشكل معه من خلال هذه الجزئيات، قد تكون تلك النظرية مستبطنة في ذهنه، أو كان فرضية اختبرها بذلك الكم من الجزئيات فكانت صحيحة وتحولت لمنهج في دراسة جزئيات أخرى، بل وقد يعيد من تعديل بعض الجزئيات لتتسق مع تلك النظرية إن كان التعديل في جزء يسير منها، أو قد يحصل العكس فيعدل قليلاً في النظرية لتشمل عدداً أكبر من الجزئيات.
وبعد اختبار تلك النظرية التي تندرج تحتها كمية كبيرة من الجزئيات يتجه الباحث للاشتغال على الإطار الفلسفي الواحد لتلك النظريات والكليات، ويشتغل عليها كاشتغال الكليات مع الجزئيات، فيعدل مرة في الكليات لتتسق مع الإطار الفلسفي، ومرة في الإطار الفلسفي ليتسق مع الكليات، ومع هذا التعديل سيضطر لينظر مرة أخرى للجزئيات ويوازن بينها مع الكليات والإطار الفلسفي، فيظل يحدث التعديلات البسيطة وغير الجوهرية حتى تكون الفكرة الجزئية متسقة مع إطارها الكلي، والإطار الكلي متسق مع الإطار الفلسفي العام، وكلما كانت متسقة أكثر كانت الفكرة أقرب للحقيقة.
وهنا نلاحظ أن عملية التجديد لا تقتصر على المستوى الأول فقط وهو الجزئيات وإنما تشتغل أيضاً على المستوى الثاني وهو النظريات أو الكليات، والمستوى الثالث الإطار الفلسفي العام، فالجزئيات يكون المخاطب فيها الفرد العامي في المجتمع، وأقصد بالعامي هنا من ليس متخصصاً في مجال بحثها، أما الكليات والنظريات فيكون المخاطب فيها المتخصص في ذات العلم المطلوب تجديده، حتى يقتنع بمدى قوتها والاستدلال عليها، أما الإطار الفلسفي العام فالمخاطب بها هو الآخر الذي يكون خارج ذلك الفكر ممن يؤمن بأفكار أخرى، فتقدم له في إطارها الفلسفي لتكون في السوق المفتوح كواحدة من الأفكار التي يرى صاحبها أنها تصلح لأن تكون عالمية وتستوعب من هم خارج دائرتها.
ولو طبقت ذلك التسلسل وتلك الطريقة على فكرنا الإسلامي فإن الجزئيات هي مسائل الفقه أو فروع العقائد، أما الكليات والنظريات فهي أصول الفقه وأصول العقائد، أما الإطار الفلسفي لتلك الأصول فيأتي من الإجابة على الأسئلة الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم في ضوء تلك الأصول وتلك الجزئيات.
قد يسير الاشتغال على المستويات الثلاثة من البداية ولكن دون الإفصاح عن الثاني (الكلي) والثالث (الفلسفي) لأنهما لا يتضحا إلا بعد مدة من الزمن، فيتضح الكلي أولاً ثم الفلسفي، ومن هنا يترقى الإنسان في معارفة فيبدأ الحديث عن الجزئيات ليخاطب فئة بعينها، ثم ينتقل إلى الكليات ليخاطب فئة أخرى دائرتها أضيق من الأولى، ثم ينتقل للإطار الفلسفي فتضيق الدائرة أكثر.
هذه هي الرؤية الأكثر تماسكاً وتفسيرية في عملية تجديد الفكر الإسلامي، وأي ضعف في إحدى مستوياتها يعنى ضعفاً في المستويات الأخرى، فلطالما رأيت من اشتغل على الإطار الفلسفي دون بناء سابق للنظريات الأصولية وللجزئيات فكان الإطار غير متماسك وغير متسق، قد تكون لغة الفلسفية عالية لكنه لم يحرك النظريات وبالتالي الجزئيات على طريقة الترس، وإنما بقي منعزلاً تملأه الكلمات الفلسفية لكنه فارغ من الاتساق ومن التأثير، وهذا ملاحظ على من قدم فلسفات إسلامية دون استيعاب وتجديد للأصول التي بنيت على الجزئيات، ولذا نجد أن من بدأ اشتغاله بالتراث وانتهى بدراسة الفلسفة كان أكثر قرباً من التجديد الحقيقي من أولئك الذين انطلقوا من الفلسفة وانتهوا بالتراث.
وهناك من انطلق من تجديد النظرية دون اشتغال على الجزئيات ودون اختبارها بعدد كبير من جزئيات الفكر الإسلامي، فكانت نظرياته غير متسقة وغير متماسكة أو في الغالب ناقصة ليس لديها قدرة تفسيرية كبيرة، وهذا الفريق يزعم أنه لا يريد تضييع الوقت في الجزئيات وأن الاشتغال على الكليات والأصول هو الأساس، وهو كلام صحيح في عمومه ولكن الاشتغال على الأصول لن يأتي بدون الفرع والجزئيات، وإنما من استيعاب أكبر كم منها، وإلا وجد نفسه غير مقنع وغير محرك للفروع والجزئيات.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله دون ذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.