في تركيا وبعد الانتخابات التي جرت في يونيو 2015، كان بإمكان الشخص أن يعرف أعضاء حزب العدالة والتنمية ومناصريه من الحزن الذي في وجوههم، والحسرة التي توحي بها اصواتهم، (لم نكن نتوقع ذلك) الكل يقول.. كانوا يظنون أن كل شيء على ما يرام، حتى بدأت تظهر نتائج الانتخابات، فكانت الكارثة.
في تركيا وبعد الانتخابات التي جرت في يونيو 2015، كان بإمكان الشخص أن يعرف أعضاء حزب العدالة والتنمية ومناصريه من الحزن الذي في وجوههم، والحسرة التي توحي بها اصواتهم، (لم نكن نتوقع ذلك) الكل يقول.. كانوا يظنون أن كل شيء على ما يرام، حتى بدأت تظهر نتائج الانتخابات، فكانت الكارثة.
هم انتصروا، لكن ليس ذلك الانتصار الذي كانوا يأملونه…. ليس الانتصار الذي تعودوا عليه… أي انه انتصار بطعم الهزيمة.
يبدو أن الإحساس بالانكسار هذا مشابه تماما لما حصل للتيار غير الحوثي من اليمنيين، حينما اقتحم الحوثيون عمران أولاً ثم صنعاء ثانياً، نفس الذهول ونفس الصدمة…. مع فارق وحيد هو أن لا دماً أريق عند الأتراك ولا أسلحة استخدمت…. كلما جرى هو ورقة وقلم، وصندوق يرسم البسمة في وجوه تيار من الناس وينشيهم بالنصر، ويجعل آخرين يشعرون بالحسرة ومراجعة الذات.
ليس المقصود هنا تقييم أداء الأحزاب التركية ولكن تقييم العملية الديمقراطية بالكامل. إن مهمة الديمقراطية الأساسية هي التداول السلمي للسلطة، لتنقل بذلك الصراع على الحكم من صراع عسكري بالسلاح الى صراع سياسي بالصندوق. بدل الاندماج بين المليشيات في جبهات القتال يحدث ائتلاف بين الأحزاب لتشكيل الحكومة. بدل التباهي بالقتل والموت يجري التنافس في البرامج لتقديم الحياة الأفضل للناس. بدل تحويل الناس الى شهداء وصرعى، خونة ومجاهدين، يتم تحويلهم الى مواطنين صالحين يحبون الحياة ويهبونها للآخرين.
إن الديمقراطية تعني حكم الأغلبية العددية، لكن ليس أغلبية العرق أو اللون أو التفوق بل أغلبية المؤيدين لبرنامج سياسي معين. قد تتغير هذه الأغلبية من انتخابات الى أخرى، لكن يبقى الأهم السلمية وعدم اللجوء الى السلاح. ليس ضد حكم الأغلبية إلا أقلية ترى أن لها الحق المطلق في حكم الآخرين مهما كان عددهم ومهما كانوا على حق أو باطل. يرى الفرد عضو الأقلية أن مساواته بشخص آخر ظلم له، وعندها نقع في المأزق.
قد يقول البعض وهل ما بعد “وأكثرهم” في القرآن الكريم معنى إيجابي؟ العكس سلبي في غالبه: جاهلون، كافرون، الفَاسِقُونَ، لِلحَقِّ كَارِهُونَ. أي أن الكثرة لا تعني الحق والصواب أو حتى الأحقية بشيء ما. ولا شك أن جهد البحث عن إجابة لهذا السؤال أقل من جهد إيجاد السؤال نفسه. ففي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك حاجة لإعمال معيار الأكثرية في تقييم الامور طالما أن الوحي قائم. بالتالي فقد كانت الأكثرية في كثير من القضايا تقف الى جانب الباطل، وكان الحق يقف الى جانب القلة التي هي مع الرسول ومع الوحي. لكن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنتهى معيار الوحي، ونشأت الحاجة لمعيار آخر لمعالجة القضايا الجديدة. بل حتى لحسم تفسير وتطبيق النصوص التي جاء بها الوحي. إذ أن تفسيرها جهدٌ بشريٌ محض، يختلف من شخص الى آخر. ومن هنا نشأ معيار الأكثرية العددية، ولعل أبرز تطبيق لهذا المعيار في التأريخ الإسلامي هو لفظ “جمهور العلماء” …… فعند الاختلاف بين العلماء حول قضية معينة نجد آراء كثيرة وفي النهاية نجد “ويرى جمهور العلماء….” وفي هذا تطبيق لمعيار الأكثرية العددية. حيث يؤخذ بالرأي الذي يتبناه أغلب العلماء بصرف النظر عن مدى تباينهم مكانةً وقدراً.
إن حكم الأغلبية يعني تفتيت الآراء والمواقف الى أجزاء صغيرة هي في الغالب أصوات وذلك بغرض جعلها قابلة للقياس والمقارنة ثم تقييمها لمعرفة مدى صوابها أو خطأها. وبعد حسم عملية التصويت يصبح من غير المنطقي أن يدعي أحد أفراد الأقلية أحقيته بتطبيق رأيه أو أن وجهة نظره هي الحق. ولا يعني ذلك أن الديمقراطية ستنتج الحكم الرشيد أو انتخاب الشخص المثالي بالضرورة، فقد تكون النتيجة حكم يثبت خطأة فيما بعد أو شخص غير مناسب. ولكنها الطريقة المنطقية والأكثر مثالية حتى الآن لحسم الخلاف وتحقيق الرضى. ولنا في انتخابات جورج بوش الابن في أمريكا خير دليل.
بالعودة الى الانتخابات التركية، ما كان بالأمس في الانتخابات السابقة، نصراً للمعارضة وخسارة للحزب الحاكم، أصبح اليوم في هذه الانتخابات العكس. ومن انتكس في حينه انتشى الآن والعكس بالعكس. ولكن الأهم هو رضا الجميع بالنتائج، والإيمان بأن الصندوق هو الحكم. فقد علق زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي، كمال قليجدار أوغلو، على نتائج الانتخابات العامة بقوله: مثلما احترمنا الإرادة الشعبية في 7 يونيو الماضي، فإننا نحترم بالمثل المشهد (النتائج) الذي برز اليوم. مثل هذا قاله أحمد داوود أوغلو رئيس حزب العدالة والتنمية عند تراجع شعبيته في الانتخابات السابقة. الكل راضٍ.
لعل حزب العدالة والتنمية الذي خسر الأغلبية المطلقة في الانتخابات السابقة وبعد إعلان النتائج تمتم في نفسه وقال ما الذي أخطأنا فيه بحق شعبنا ليحجم عن التصويت لنا، أو ما الذي يريده شعبنا لنحظى بثقته. وساروا بهذا الطريق، فهموا شعبهم، فحصلوا على تأييده. هم آمنوا أنهم ليسوا أوصياء على شعبهم حتى يعرفوا مصلحته أكثر منه، وفي حال صوت لغير صالحهم فتلك هي مصلحته وذلك هو حقه. عدلوا في برنامجهم الانتخابي ولامسوا حاجات الناس وركزوا على الاقتصاد والأمن. لقد قال أرشد هرمزلو مستشار الرئيس التركي السابق عبد الله جول، وأحد قيادات حزب العدالة والتنمية، بعد نتائج انتخابات يونيو الماضي أن الحزب سيعمل “إعادة ضبط المصنع ” للحزب. وبالفعل دخل الحزب الانتخابات “بشعار العودة الى الذات”. لا تخوين ولا تآمر ولا عسكرة، وهذه هي الديمقراطية. وبالمقابل، قالت أحزاب المعارضة نفس الفكرة نحن نقدم الخير لشعبنا لذلك مال إلينا، وفرحوا بنتائج الانتخابات السابقة، ورحبوا بنتائج الانتخابات الحالية، رحبوا بها لأنها خيار شعبهم وحقه الأصيل في تحديد من يحكمه وكيف. وتلك هي الديموقراطية أيضاً.
كنا في اليمن قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ذلك. كنا على وشك الاستفتاء على الدستور، وتقسيم البلد الى أقاليم. والبدء في الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية، ونسير على خطى العالم المتحضر. قد يكون البعض رافض لفكرة الأقاليم من حيث المبدأ أو العدد أو حتى من حيث التقسيم الجغرافي، أو قد يكون آخرون رفضوا موضوعاً ما في الدستور نظام الحكم أو الحقوق والحريات. كل هذه القضايا وغيرها كان بالإمكان حلها عن طريق استفتاء الناس أنفسهم، لمعرفة ما الذي يرضيهم، وكيف يريدون أن يكون مستقبلهم. لم يكن لأحد الحق في أن يكون وصياً على الشعب، يحدد مستقبله ويقرر مصلحته. لكن ما حصل هو أنه ضُرب بكل تلك الآمال عرض الحائط، وتم استعمال القوة المسلحة لفرض رؤية تيار قل أو كبر على شعب بأكمله، ودخلت البلاد في موجة صراع مسلح ولا تزال. وحصل ما حصل من إحساس بالحسرة والحزن من قبل تيار من الناس ونشوة بالنصر من قبل تيار آخر في مرحلة ما. ثم تبدلت المواقف وأصبح المنتصر خاسراً والخاسر منتصراً، تماماً كما حصل في الانتخابات التركية ولكن مع فارقين، أول: أنه تم اللجوء الى الحرب بدل الانتخابات وتم استخدام السلاح بدل الصوت وأريقت الدماء وقتل الآلاف ودمرت البلد. وثانٍ: أن الحزن في تركيا يٌنتسى بعد أسبوع من الانتخابات، بينما يبقى الجرح في اليمن ينزف لمئات السنين.