الخمس بين مذاهب السنة والشيعة (3/2)
(2) ذي القربى في آيتي الغنائم والفيء:
يقول تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنفال:41].
ويقول تعالى: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[الحشر:7].
اختلف في تقسيم الخمس على عدة أقوال:
فقيل: يقسم على أربعة أسهم، فربع لله وللرسول ولذي القربى، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل “.
وقيل: يقسم الخمس على خمسة أسهم: سهم لله وللرسول ، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل”.
وقيل: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يكون في الكعبة، وسهم للرسول ، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل”.
وقيل: جعل الله الرأي إلى نبيه في خمس الغنائم، وفي الفيء كله، يقسمه كيفما رأى.
وقيل إنه قسّم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين وابن السبيل”.
اختلف الفقهاء والمفسرون في المقصود بذوي القربى، فقيل: قرابة النبي من بني هاشم، وقيل: يدخل معهم بني المطلب، وقيل: قريش كلها أقرباء النبي عليه السلام([11])، ورجح الأحناف أنما استحقوه بفقرهم.
أما بعد موت النبي فلم يعد وصف ذي القربى منطبقاً عليهم، لذلك اختلفوا في سهم النبي وذوي القربى موته عليه السلام على أقوال:
قال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، ويدخل فيه الهاشمي الفقير كغيره من المسلمين، وأما سهم النبي فقد سقط بموته، وكذلك سهم ذوي القربى لأنه خاص بأهل زمنه فقط.
وقال مالك: الخمس لا يستحق بالتعيين ولكن النظر فيه للإمام يصرفه فيما يرى وعلى من يرى من المسلمين.
وقال الشافعي: يذهب لبني هاشم فقيرهم وغنيهم على السواء، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويدخل معهم بني المطلب([12]).
وقيل: سهم الرسول وذوي القربى ينصرف للخليفة من بعده وهو مروي عن محمد بن الحنفية([13])، وقيل: سهم ذي القربى ينصرف لقرابة الخليفة”([14]).
وهناك من رأى أن المقصود بذي القربى هم أقرباء المقاتلين لا أقرباء النبي، وقد ذكر هذا القول الماتريدي (303هـ) في تفسيره كتأويل ظاهر في الآية، يقول: “ثم ليس في ظاهر الآية دليل أن المراد بقوله: (وَلِذِي الْقُرْبَى) قرابة رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – بل في ظاهرها دلالة أنه أراد به قرابة أهل السهام في ذلك؛ لأنه خاطب به الكل بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)، وظاهره أنه أراد به قربى من خاطب، وكان الخطاب لهم جميعًا. ألا ترى أنه لم يفهم من قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، قرابة رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن قرابة المخاطبين، وكذلك لم يرجع قوله: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، إلى قرابة رسول اللَّه بل إلى قرابة المخاطبين به؛ فعلى ذلك الظاهر من قوله: (وَلِذِي الْقُرْبَى)” ([15]).
وقال أيضاً: “يجوز أن يقال: إن الظاهر من هذه الآية أن يكون المراد منها غير قرابة رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ” إن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى “، فقرابة رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – إنما تدخل في هذه الآية بالتأويل، وذلك أن المفهوم من ذكر القرابة إنما هو قرابة المخاطبين في الآية، ومعلوم أن الخطاب بالقسم إنما هو للمغتنمين”([16]).
وهذا المعنى لذي القربى هو الأقرب للآية من تلك المعاني السابقة، وسأسرد ما يؤكده من سياق الآيات والسياق العام للفظ ذي القربى في القرآن، وما يؤيده من شواهد عقلية وتاريخية:
أولاً: الخطاب في بداية الآية توجه إليهم فهم المخاطبون في أول الآية ” اعلموا أنما غنمتم “، أي اعلموا أيها المقاتلون أنما غنمتم من شيء… وأولى أن يعود لفظ ذي القربى إلى أولئك المقاتلين جميعاً.
ثانياً: سياق “ذي القربى” في القرآن كله جاء خطاباً للمؤمنين جميعاً، ومن قال بأنهم أقرباء النبي فقد خالف السياق العام في القرآن للفظ (ذي القربى) فقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثمان مرات سوى هذين الموضعين، وكلها -عدا موضعا واحداً كان في سياق بني إسرائيل- كانت خطاباً لجميع المؤمنين تقرر فيه الآيات الإحسان لأقربائهم وإعطائهم حقهم من المال، فكيف نستثني هذين الموضعين من هذا العموم ونجعله خاصاً بأقرباء النبي فقط دون قرينة واضحة.
فأقارب المسلمين لهم حق في أموال من يقربهم ذكرها الله تعالى ﴿وآت ذا القربى حقه﴾، فهؤلاء يرون الغنائم تقسم أمامهم ولا يصلهم شيء منها لعدم مشاركتهم في المعركة لسبب من الأسباب المؤقتة أو الدائمة، وهذا قد يجعل في نفوسهم شيئا، خاصة إذا كانت الغنائم كبيرة، ولأن لفظ ذي القربى يشمل فئة كبيرة من أقارب الرجل فإن جميع أهل المدينة سيصلهم من هذا السهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام وجميع الأنبياء قبله كان شعارهم في دعوتهم ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الشعراء:109]، علق الألوسي على الآية بقوله: ” إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئاً ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضاً فيه منافاة لقوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾[يوسف:104]”([17]).
ثالثاً: ومن القرائن كذلك أن آية الغنائم نزلت بعد بدر في أول العهد المدني كما يشير سياق الآيات، وكان أغلب أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت لا زالوا بمكة بعضهم مستضعف والآخر شارك مع قريش في القتال كالعباس وعقيل، فإن قلنا إن السهم يشمل جميع أقرباء النبي فقد أعطينا مكافأة لمن قاتل النبي، وإن قلنا إن السهم فقط لأقرباء النبي بالمدينة، فإن عددهم قليل جداً، وسيكون نصيبهم في الخمس كثيراً عليهم، وسنخالف مقصداً مهماً في الإسلام في تقسيم المال وهو أن لا يكتنز المال لدى فئة قليلة يقول تعالى ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾، خاصة إذا كان هؤلاء الأقارب قد شاركوا في المعركة وأخذوا نصيبهم من الأربعة الأخماس المتبقية التي للمقاتلين.
رابعاً: ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام مات ولم يخلف ثروة من المال، بل كانت حالته أقرب إلى الفقراء كما تروي كتب السير، كما ثبت أنه كان يصرف سهمه لصالح المسلمين، ولم يختلف على ذلك أحد، وإذا كان النبي يصرفه في مصالح المسلمين فلا بد أن يعطي أقاربه كونهم جزءا من المسلمين، وقد يعطيهم من باب صلة ذي القربى عملاً بالآيات التي تحض كل مسلم على إكرام أقاربه ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾[الإسراء:26]، فتصوروا معي إذا كان أقارب النبي سيحصلون على سهم خاص بهم إضافة إلى سهم المقاتلين منهم فوق ما يحصلون عليه من النبي، فإن معظم مال المسلمين سيذهب إلى أقارب النبي وهذا ما لم يحدث، فقد روى لنا التاريخ دون مخالف أن معظم أقاربه مات فقيراً، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب الملقب لفقره بأبي تراب، رغم كثرة الغنائم التي غنمها النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين وغيرها، مما يعني أنه لم يكن هناك سهم خاص بأقارب النبي.
وخلاصة المغالطة هذه أن الآية تتحدث عن ذوي القربى، وهذا المصطلح يعني ببساطة أقارب الرجل من الدرجة الأولى، الأولاد والأبوين والزوجة والأخوة، والدرجة الثانية من الأعمام وأبناء الأعمام، وسواء كان المقصود بها أقارب النبي أو أقارب المقاتلين، فإنها لا تعني الذرية مطلقاً، كما أن المعلوم أن النبي عليه السلام لا ذرية له “ما كان محمد أبا أحد من رجالكم” والذرية تنسب للذكور، ولذا يرفض الهاشميون أن ينسبوا أولاد البنات لبني هاشم، ولا يعتبروا من انتسب للأم دون الأب ممن تحرم عليهم الصدقة ولا ممن يعطى من الخمس لأنه ليس هاشمي، ولذا ذهبوا إلى الجد هاشم ليدخلوا ذرية علي ثم يخرجوا البقية من أولاد المطلب بطرق أخرى.
إذن فكيف يصح تنزيل مصطلح ذوي القربى على فئة لا يصح أن يطلق عليها قربى للنبي، وكيف جعلوا لفظ الذرية مكان القربى، ثم كيف جعلوا ذرية علي هي ذرية النبي عليه السلام، أوليس الانتساب للنبي جاء عبر ابنته فقط وهو ما لا يقروه!!
كمية من المغالطات والالتفاف على النصوص بهدف تثبيت امتياز وهمي وحق مالي يذهب بأكثر الثروة لفئة محدودة في نقض لأسس الدين ومقاصده وفي إساءة للنبي عليه السلام ورسالته.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
([11]) أحكام القرآن للجصاص 3/82-85 بتصرف.
([12]) المنتخب في الفقه على المذاهب الأربعة للفيومي 181.
([13]) أحكام القرآن للجصاص 3/84،.
([14]) أحكام القرآن للجصاص 3/84،.
([15]) تأويلات أهل السنة للماتريدي 5/208.
([16]) تأويلات أهل السنة للماتريدي 9/586.
([17]) روح المعاني للآلوسي ج25ص33.