الاستقطاب عربيا بين من يريد أن يثبت بأي شكل عدم جدية الأتراك في مواقفهم إزاء الإسرائيليين، أو الذي يبالغ في رؤية وتقييم هذا الموقف، هو استمرار للوقوف موقف المتفرج والهاوي وللجدل العبثي من دون بناء سياسات فاعلة.
في الوقت الراهن، لا يمكن أن نجد رئيس دولة أو رئيس حكومة ينافس الأتراك أبداً في خطابهم الحماسي والغاضب إزاء القضية الفلسطينية، وضد السياسات الإسرائيلية. وهو ما يبرر ابتهاج شرائح عربية بفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
في الأثناء، ارتفعت التجارة التركية-الإسرائيلية منذ العام 2009 بمعدل
19 %، مع أن التجارة التركية الخارجية لم ترتفع في السنوات ذاتها سوى بنسبة
11 %! وانخفضت في حالة مثل مصر بمقدار 10 % بين العامين 2012 و2014، كما تراجعت مع روسيا بنسبة 15 % بين العامين 2013 و2014. كذلك، ارتفع عدد السياح الإسرائيليين إلى تركيا بمقدار 125 % بين العامين 2012 و2014 (من 83740 إلى 188608 سائح)، لكنه ما يزال أقل من رقم الربع مليون سائح إسرائيلي ذهبوا إلى تركيا في العام 2008، أي في العام السابق لبدء التوتر التركي الإسرائيلي على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة.
لا يجدر التقليل من أهمية المواقف التركية الداعمة للفلسطينيين. وللتذكير، تلعب تركيا دورا مهمّا في عمليات عزل الإسرائيليين في الإعلام والتجمعات الدولية، من مثل موقف الرئيس التركي الحالي العام 2009، يوم كان رئيسا للوزراء، وانتقد الرئيس الإسرائيلي حينها، شمعون بيريس في ملتقى دافوس الاقتصادي أمام الكاميرات، ورفض الاستمرار في اللقاء معه. ثم أجبر الموقف التركي إسرائيل على الاعتذار من الأتراك ودفع تعويضات، بسبب هجوم الجيش الإسرائيلي على ركاب القارب التركي “مافي مرمرا” في العام 2010 الذاهبين إلى قطاع غزة المحاصر للتضامن مع أهله. ثم تصريحات رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، مطلع هذا العام 2015، يقارن فيها بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والإرهابيين الذين هاجموا مجلة فرنسية في باريس نشرت رسوما مسيئة للإسلام، ويعتبر السياسات الإسرائيلية إرهابية.
كذلك، لا يجدر تجاهل تناقض المصالح التركية الإسرائيلية في بعض الملفات، من مثل معالم التحالف الإسرائيلي اليوناني القبرصي لاستخراج الغاز المكتشف في شرق البحر الأبيض المتوسط على حساب “قبرص التركية” ولبنان. ومن الملفات الأخرى التي قد تثير الغضب التركي، أنّه بينما كانت تركيا وإسرائيل حليفين داعمين لأذربيجان، خصوصاً بسبب خصوصية علاقة إسرائيل مع أذربيجان التي تزودها بالطاقة والغاز، وتشتري سلاحها، ودعم أنقرة لأذربيحان في مواجهة أرمينيا، الخصم التاريخي للأتراك أيضاً، إلا أنه في السنوات الأخيرة تبنى الرئيس الأذري إلهام علييف خطابا ناقدا لتركيا بسبب مساندتها الفلسطينيين ورافضا للانتقادات الموجهة لإسرائيل، كما اتسعت السياحة الإسرائيلية لأذربيجان، ما يعني تقويض العلاقة التركية الأذربيجانية لصالح إسرائيل.
إلى ذلك، أصبحت تركيا ليس مقراً علنياً لعدد من قادة حركة “حماس”، بل وأصبحت وجهة رئيسة لاستقبال المرضى والجرحى والطلبة الفلسطينيين. كما استضافت لقاءات تجمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع السفراء الفلسطينيين حول العالم. وساند الأتراك الرئيس عباس بقوة في طلبه اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولةً عضواً.
في المقابل، وعدا عن تقدم التجارة والسياحة سالفتي الذكر مع الإسرائيليين، فإن تركيا مثلا لم تحاول إعاقة إسرائيل دوليا في بعض المناسبات، من مثل انضمامها لمنظمة التنمية والتعاون الاقنصادي، العام 2010، مع أن تركيا كدولة عضو كان يمكنها الاعتراض وعرقلة الانضمام لأن الإجماع ضروري لهذه العضوية.
عمليا، لا يمكن إلا رؤية موقف تركيا المتقدم إزاء الموضوع الفلسطيني. والسلوك المنطقي عربياً وفلسطينياً، هو العمل على تشجيع وترجمة هذا الموقف إلى سياسات عملية مختلفة، قد يكون من بينها المقاطعة الاقتصادية، وإن كان من المفترض التوقف أيضا عند نمو العلاقات الإسرائيلية مع دول عربية اقتصاديا، من مثل مشاريع اتفاقيات الغاز مع الأردن وتصدير المنتوجات الزراعية إليها، ومشاريع الغاز والنسيج وغيرها مع مصر. وبالتالي الانتباه إلى مدى تقدم الموقف التركي نسبياً، والانتباه إلى أنّه لو وجدت سياسة عربية موحدة، لأمكن حفز تركيا على سياسات عملية أكثر بمواجهة الإسرائيليين.
الاستقطاب عربيا بين من يريد أن يثبت بأي شكل عدم جدية الأتراك في مواقفهم إزاء الإسرائيليين، أو الذي يبالغ في رؤية وتقييم هذا الموقف، هو استمرار للوقوف موقف المتفرج والهاوي وللجدل العبثي من دون بناء سياسات فاعلة.
*نقلاً عن جريدة “الغد” الأردنية