الخمس بين مذاهب السنة والشيعة (3/1)
تأتي دراسة هذه القضية في سياق نقد القضايا التي تتعارض مع أصول ومقاصد وقيم الإسلام، والمساواة إحدى تلك القيم التي جاء الدين ليؤكدها قولاً وفعلاً، ومفهوم الخمس بمعنى تخصيص سهم فيه لبني هاشم يخل بتلك القيمة وينقض مقصداً من مقاصد الإسلام، ويخالف هدف الشريعة في عدم انحصار المال في فئة واحدة، والآيات التي جاء فيها ذكر الخمس لله أكدت على ذلك المعنى وذكّرت بحقوق الفئات الضعيفة، وعللت ذلك بالهدف الأساس ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ [الحشر:7].
ولكن ذلك المفهوم القرآني أخذ منحى آخر عند بعض المذاهب الفقهية ابتعد عما تحدثت عنه الآيات وعن هدفها، وخاصة عند المذاهب الشيعية التي جعلت الخمس أصلاً في الدين أعظم من الزكاة، وخصصت سهماً لفئة واحدة من المجتمع بما ينقض تلك القيم من جذورها، فما هو الخمس في آيتي الغنيمة والفيء وأين مصرفه وهل لبني هاشم سهم خاص منه وما المقصود بالغنائم والفيء ولماذا توسع مفهومها، ومن هم ذوي القربى، وهل يشمل ذرية الشخص أم لا، وهل تحرم الزكاة والصدقة على بني هاشم؟ وأين موقعه اليوم في شكل الدولة الحديثة؟ أحاول الإجابة على هذه الأسئلة لتتضح الصورة في هذه القضية التي شيدت لها كتب الفقه الشيعي البناءات العالية على أساس هش وضعيف لا يحتمل كل ذلك البناء.
(1) الغنائم والفيء ومصرفهما:
الغنائم هي ما يُؤخذ من مالٍ حربيٍ قهراً عن طريق القتال، وقد جاءت آية تقسيم الغنائم في سورة الأنفال بعد السؤال الذي ذكرته أول السورة، وهو سؤال المؤمنين عنها وكيف تقسم ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:1].
فكانت الإجابة أن حكمها لله أولا يحكم فيها بما يريد، ثم للرسول يقسمها بينكم كما أمر الله، فأمرها مفوض إلى الله ورسوله، وكأن الآية تقرر أن هذا الأمر عائد إلى النبي في مقام ولاية الأمر، ثم ترشده الآية الأخرى لكيفية تقسيم تلك الغنائم ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنفال:41]. فتكون قد أخذت الآية قد خصت من الغنيمة خمساً ينفقها النبي في تلك الأقسام التي ذكرتها بما يراه مناسباً ويحقق المصلحة، بينما يذهب أربعة أخماس الغنيمة للجنود المقاتلين.
أما آية الفيء فجاءت تخاطب المقاتلين الذين حصلوا على غنيمة من دون قتال، ومن ثم فلن يحصلوا على أربعة أخماسها كما في الغنائم التي جاءت بعد قتال. وعليه فإن توزيع الفيء سيكون على أسس مختلفة، إذ سيحصل المقاتل على نصيب يحدده النبي في مقام ولاية الأمر (الإمامة) لا في مقام الرسالة، وقد حثته الآية أن يوزع جزءا من الفيء على من ذكرتهم الآية وعليهم أن يسلموا بما سيوزعه ويأخذوا ما أعطاهم منه ويتركوا ما نهاهم عنه ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.
فإذا قيل لمَ لم يذكر سهم المقاتلين في الآية، قلنا إن الأمر واضح لا يحتاج إلى ذكر مثلما لم يذكر أيضاً في آية الغنائم لأن الخطاب أساساً لهم بقرينة ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) وقرينة ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، والآية تبين فلسفة توزيع المال في الإسلام، وكانت كفيلة ببيان معنى آيتي الفيء والغنائم بدون تكلف.
وفي سياق آية الفيء نجد أن الآية تحاول تعويض المهاجرين -الذين تركوا ديارهم وأموالهم-من مالٍ لم يأت بدماء المقاتلين، وتحاول ترضية غير المهاجرين من مقاتلي وسكان المدينة المنورة (الأنصار)، بإضفاء بعض الأوصاف المدحية عليهم فكأنما تقول الآية: إن هذا الفيء للمسلمين جمعياً، إلا أن فقراء المهاجرين تحديداً أحق به، أما أنتم يا من تبوأتم (الدار والإيمان) فقد علم الله فيكم أنكم تؤثرون غيركم وتحبونهم ولا تجدون في صدوركم حاجة مما أوتي غيركم، وهذه صفات المفلحين.
وهذا المعنى لذي القربى يوافق روح الإسلام ومقاصده من العدل والمساواة بين أفراده وإعطاء كل ذي حق حقه، كما يدفع عن ديننا أي شبهة قد يستغلها أعداؤه بأنه يحابي أحداً بدون حق.
أما مصارف الخمس في الغنائم فقد اختلفت فيه المذاهب بعد موت النبي كالتالي:
المذاهب السنية:
- 1. أبوحنيفة وكل أهل الرأي: سهم الرسول وسهم ذوي القربى سقط بموت النبي عليه السلام، والثلاثة الأسهم الباقية يوزعها ولي الأمر على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
- 2. مالك والحسن البصري والثوري: يرجع الخمس في الغنائم لولي الأمر يصرفه في مصالح المسلمين.
- 3. الشافعي: يقسم خمس الغنائم لخمسة أقسام كالتالي: سهم الله ورسوله لمصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى لبني هاشم فقيرهم وغنيهم، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل من جميع المسلمين.
وأما الفيء: فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الفيء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف في مصالحهم العامة، وذهب الشافعي إلى تخميس الفيء كما الغنائم([1]).
قال ابن المنذر: ولا تحفظ عن أحد قبل الشافعي في الفيء خمس، كخمس الغنيمة([2]). وقال ابن رشد: “وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي”([3]).
المذاهب الشيعية:
أما المذاهب الشيعية فالفيء والغنيمة عندهم سواء وتقسيمها كالتالي:
- 1. الإمامية: يوزعون الخمس وما ألحقوه بالخمس كالتالي: سهم الله وسهم رسوله وسهم ذي القربى تفوض للإمام من آل البيت، وسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل على بني هاشم فقراؤهم وأيتامهم([4]).
- 2. الزيدية الهادوية: يوزعون الخمس وما ألحقوه بالخمس كالتالي: سهم الله لمصالح المسلمين، وسهم الرسول للإمام من آل البيت، وسهم ذوي القربى لبني هاشم فقيرهم وغنيهم، وسهم اليتامي والمساكين وابن السبيل يصرف للهاشميين ممن انطبق عليه ذلك فإذا لم يوجد هاشمي يصرف لغير الهاشمي([5]).
ونلاحظ من خلال المقارنة بين تلك المذاهب الآتي:
– أن جمهور المذاهب السنية لم يحتسب سهماً خاصاً لبني هاشم، واعتبروا أن لفظ ذي القربى لا يشمل ذرية بني هاشم وإنما هو خاص بمن كان في زمن النبي وسقط بموته، ففرق بين معنى ذوي القربى وبين الذرية، واعتبروا تصريف الخمس عائد على ولاة أمر المسلمين، ويستدلون بما عمله أبو بكر وعمر فقد وزعوه على مصالح المسلمين ولم يخصوا بني هاشم بسهم خاص وإنما هم كبقية المؤمنين.
– أن الإمام الشافعي هو الوحيد الذي أقر بخمس الخمس لبني هاشم في تأويل لا تحتمله الآية، مما أوقعه في تناقضات وإشكالات كثيرة منها: أنه لم يفرق بين الذرية والأقارب رغم اختلافها لغة وشرعا. وأنه جعل السهم بين فقير قرابة النبي وغنيهم بشكل متساو، وهذا يخالف مقاصد الإسلام في توزيع المال وتقريب الهوة بين الفقراء والأغنياء، ويخالف ما قالوه من أنها بديل عن تحريم الصدقة عليهم، فإن قلنا إنها تعويض للفقير فكيف تكون للغني!! ومنها أنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين في ذلك السهم، قياساً على الميراث، رغم الفارق بين الميراث والغنيمة.
– أن المذهبين الشيعيين ذهبا بأكثر من نصف الخمس لبني هاشم، ولم يكتفوا بالغنيمة والفيء فقط وإنما أدخلوا فيها ستة أصناف أخرى ليست من أموال الكفار المحاربين وإنما من أموال المؤمنين.
فتحدث المذهب الإمامي عن سبعة أصناف يؤخذ منها الخمس ويصرف كما ذكرت سابقاً وهي:
- 1. الغنائم المأخوذة في الحرب.
- 2. ما خرج من الأرض من معادن، ذهب فضة رصاص، بترول غاز ..الخ.
- 3. الركاز، وهو كل مال مدفون تحت الأرض.
- 4. ما يخرج من البحر، لؤلؤ مرجان.
- 5. الذمي الذي اشترى أرضاً من مسلم يجب عليه دفه خمسها.
- 6. كل ما يزيد عن حاجة الإنسان، تجارة وصناعة ووظيفة وعمل يومي، أملاك، هدايا.
- 7. المال الذي اختلط فيه الحلال بالحرام. اختلاس وسرقة([6]).
أما المذهب الهادوي الزيدي فتحدث عن سبعة أصناف يأخذ منها الخمس:
1) غنائم الحرب
2) صيد البر والبحر
3) ما استخرج من البر والبحر، معادن وذهب وفضة وزيت وغاز ونفط ..الخ.
4) الركاز
5) الخراج
6) مال المعاملة
7) ما يؤخذ من أهل الذمة([7]).
وإدراج هذه الأصناف ضمن الغنائم مغالطة واضحة وقياس لا يصح، لأن الغنائم مأخوذة من حربي وتلك من أموال الناس، والهدف من توسيع مفهوم الغنيمة هو توسيع الثروة لسهم بني هاشم، وهذا يتصادم مع مقصد الآية التي جاءت في سياق الفيء ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ [الحشر:7]. إذ سيجعل المال دُولة في فئة الهاشميين، وهذا ما يتصادم مع مبدأ الإسلام في المساواة للناس جميعاً.
أما المذاهب السنية التي تحدثت عن زكاة الركازبأنه الخمس فلم تخصص منه سهماً لبني هاشم وإنما جعلته في مصالح المسلمين العامة أو في مصارف الزكاة الثمانية.
مصرف خمس الركاز بحسب المذاهب السنية:
1- الأحناف والمالكية: يخمس ويصرف في مصرف الغنيمة، أي مصالح المسلمين.
2- الشافعية: يخمس ويصرف في مصارف الزكاة الثمانية.
3- الحنابلة: يخمس، في مصرفه لأحمد روايتان:
الأولى: يصرف في مصارف الزكاة، وهي المصارف الثمانية، وهي الأقرب لمذهب أحمد، والثانية: يصرف في مصارف الفيء، وظاهر مذهبه في الفيء أنه يصرف في مصالح المسلمين([8]).
وكذلك المعادن وهي كل ما في باطن الأرض وظاهرها من معدن سواء كان جامداً أو سائلاً، ويدخل فيه الذهب والفضة والرصاص والغاز والنفط وغيره، لم تجعل المذاهب السنية فيه سهماً خاصاً لبني هاشم، واختلفوا في زكاته بين ربع العشر وبين الخمس كالتالي:
زكاة المعادن ومصرفها في المذاهب السنية:
1- مالك والشافعي وأحمد: زكاة المعادن ربع العشر، ويصرف في مصارف الزكاة.
2- أبو حنيفة: زكاة المعادن الخمس، ويصرف في مصالح المسلمين([9]).
وهنا نلاحظ إن وهم التشابه في مصطلح الخمس والقول بإجماع بين المذاهب مغالطة واضحة، ففرق بين المذاهب السنية التي تتحدث عن زكاة في الركاز والمعادن تذهب لمصالح المسلمين ومصارف الزكاة الثمانية، ومن يتحدث عن خمس في الركاز والمعادن وكل ما في ظاهر البر والبحر وباطنه من سائل وجامد ليذهب أكثر من نصف الخمس لبني هاشم، أي ما يعادل 10% وأكثر بحسب تقسيمهم.
أما المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه، فقالت المذاهب السنية كلها لا زكاة فيه، ولا زكاة في صيد السمك، عدا ما قاله أبويوسف من الحنفية، فقال: في اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر خمس، ويصرف في مصالح الناس([10]).
وأما الخراج والجزية وما يؤخذ من مال الذمي فقالوا تصرف في مصارف الفيء، ومصارف الفيء كما عند الفقهاء جميعاً تصرف في مصالح المسلمين، ولم يقل بتخميسها أحد قبل الشافعي كما قال ابن المنذر.
وأنا هنا لا أدافع عن منظومة الفقه السني ولي ملاحظات عدة على تفصيلات كثيرة، ولكني هنا أبين الفوارق المهمة التي تزيل الالتباس من ادعاء إجماع المذاهب السنية والشيعية على الخمس دون بيان اختلافاتها ودون تفريق بين مصارفها وهو الأهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) انظر الموسوعة الفقهية 32/232.
([2]) المغني (6/455).
([3]) بداية المجتهد (2/165).
([4]) الفقه على المذاهب الخمسة لمحمد جواد مغنية (1/297).
([5]) التاج المذهب لأحكام المذهب (1/229-230). البحر الزخار 16/236.
([6]) الفقه على المذاهب الخمسة لمحمد جواد مغنية (1/294).
([7]) التاج المذهب لأحكام المذهب (1/227).
([8]) انظر الموسوعة الفقهية 23/108. 32/232. 35/151.
([9]) انظر الموسوعة الفقهية.
([10]) الاستذكار (3/154).
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.