كتابات خاصة

الاختيار للأصلح .. تركيا نموذجاً

محمد عزان

لم تعد الشعوب الواعية تصفق لزعمائها ولا تنضوي تحت ألوية أحزابها لمجرد العصبيات الدينية أو العرقية أو الجهوية، ولكنها أصبحت تقيِّم الجميع أحزاباً وقيادات من خلال البرامج التي تقدمها لخدمة الإنسان، كم محمد عزان
لم تعد الشعوب الواعية تصفق لزعمائها ولا تنضوي تحت ألوية أحزابها لمجرد العصبيات الدينية أو العرقية أو الجهوية، ولكنها أصبحت تقيِّم الجميع أحزاباً وقيادات من خلال البرامج التي تقدمها لخدمة الإنسان، كما أنها لم تَعُد تكتفي بمجرد الثرثرة والكلام في وسائل الإعلام أو التغني بأمجاد الماضي وأوهام المستقبل بل تريدها حقائق على الأرض، ولا يهمها تفاصيل الهوية التَّكوينية للقيمين عليها (كالعِرق والدَين والمَوْطن)، بقدر ما يهمها أن تكون ناجحة تُقدم الأفضل للإنسان والحياة.
هكذا قرر الأتراك أن يكون مسلكهم في اختيار زعمائهم السياسيين ومُسيري شأن حياتهم اليومية، ودفعوا أحزابهم نحو العمل الجاد الملائم بين النظريات والتطبيق بعيداً عن الخيالات والدعاوى المجردة، فمن أحسن فلنفسه وحزبه وتياره ومن أساء فعليه وعلى حزبه وتياره وتاريخه ومستقبله.
وهذا ما أدركه التيار ذو الخلفية الإسلامية فحسم أمره في بعض القضايا التراثية المعيقة سواءً من مسائل الفكر والفلسفة أو مسالك السياسة والإدارة، وانطلق نحو العمل الجاد الذي أبهر العالم بمرونته ووعيه اللذين حالا دون اندفاعه إلى الفوضى والعمل المسلح على الرغم من إقصائه من الحكم بالقوة عدة مرات.
فحينما استلم حزب العدالة الحكم في تركيا أواخر 2002م، وخلال عقد من زمن حكمه تغيرت تركيا تغيرًا كبيراً، ففي المجال الاقتصادي شهدت البلاد طفرة هائلة، حيث قفزت من المركز 111 عالميًا إلى المركز السادس عشر، وارتفعت الصادرات من 23مليار دولار إلى 153 مليار، ووصل الناتج القومي إلى 800 مليار دولار، وكان الدولار الواحد يساوي أكثر من مليون ونصف المليون ليرة، ليصير حوالي ليرتين فقط، وارتفعت المرتبات عدة مرات، وأصبح معظم الأتراك يتمتعون بتأمين صحي وتعليم راقٍ، إضافة إلى إيجاد بنية تحتية ضخمة، قياسًا بما كان، وبما هو كائن في معظم دول الجوار. هكذا قال الدكتور فؤاد البناء في مقال له عن التنافس بين حزب العدالة والتنمية وحركة ما يعرف بجماعة الخدمة، وكلاهما حركات ذات خلفية دينية إسلامية.
وأضاف: “لقد تم عمل ورشة ضخمة لكافة الآثار التركية، وصارت تركيا تستقبل حوالي ثلاثين مليون سائح، وزادت شبكة الطرق بنسبة 200%، وبنيت عدة مطارات عملاقة، وصارت شركة النقل الجوي التركية هي الأولى في أوروبا بعد أن كانت على حافة الإفلاس بسبب الفساد!
وزرعت مساحات شاسعة من الأراضي، وتم زراعة ملياري شجرة، وأصبحت المدن التركية بفضل البنية التحتية الممتازة والنظافة والتشجير، حدائق مفتوحة، ولاسيما اسطنبول التي صارت تحفة العالم بعد أن كانت من أوسخ مدن الدنيا.
تم بناء أكثر من 60 جامعة عملاقة، وشهدت البلد ثورة تعليمية كمًّا وكيفًا، وبرزت ثورة صناعية في المجالين المدني والعسكري بشكل هادئ دون ضجيج، حيث صارت تركيا تُصنِّع من الإبرة حتى الطائرة، بما في ذلك الدبابات والفرقاطات والأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار.
وبرزت ثورة إعلامية، وارتفع سقف الحرية، وتم ترويض العسكر وتقليم أظافرهم ومخالبهم بعد إصلاحات دستورية ومعارك قانونية وسياسية شرسة، وبعد محاولات فاشلة للانقلاب بمعدل مرة كل سنة!
تم تصفير مشاكل تركيا مع بعض دول الجوار بما فيها اليونان عدوتها اللدودة، وكانت علاقات تركيا مع إيران وسوريا والعراق دخلت عصرها الذهبي لولا تداعيات الربيع العربي، التي جعلت هذه البلدان في طرف الشتاء بينما وقفت تركيا في طرف الربيع.
ووقفت تركيا بكل قوة مع القضية المركزية للعرب(فلسطين) وسائر قضايا العرب والمسلمين، كالصومال وبورما، حيث كان أردوغان هو الزعيم المسلم الوحيد الذي زار هذين البلدين ودعمهما في محنتهما”.
واليوم بات من الواضح أن حزب العدالة والتنمية قد رسم للحركات ذات الخلفية الإسلامية مساراً واضحاً أعلن فيه بجلاء أن قيمة كل جماعة ما تحسن، وأنه لم يعد بالإمكان إسكات الناس وتجييشهم لمجرد الوعد بنعيم الآخرة، أو التغني بأمجاد الماضي، وأنه يمكن أسلمة النظام العلماني وعلمنة النظام الإسلامي، وخير الخلق أنفعهم للخلق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى