سرير بروكْرِسْت!
تحكي الأسطورة اليونانية أن قاطعَ طريقٍ غاشماً يُدعى ” بروكرست ” (كثيرون ينطقون الاسم ويكتبونه خطأً: بروكست) كان يهاجم الناس ويختطفهم – وفي روايةٍ أخرى: يدعوهم مستضيفاً – إلى بيته على طريق المسافرين، حيث يوجد سرير على مقاسه هو، فيقوم بقطع أرجلهم أو مَطّ أجسادهم بحسب طبيعة أطوالهم على أن يُلائم مقاس الشخص مقاس السرير بعد القطع أو المطّ!
فكان إذا وجد الضحية أطول من السرير قام ببتر رجليه، وإذا كان قصيراً مَطَّ جسده. وفي الحالتين يموت الضحية لا محالة.
بعدها صارت هذه الأسطورة أو بالأصح تعبير ” سرير بروكرست ” اصطلاحاً لحالة فرض القوالب أو القناعات الذاتية أو الفئوية على الأشخاص أو الظواهر أو الأشياء أو أيّ نشاط انساني، بحيث غدا أسلوب بروكرست هذا نوعاً فجَّاً من قولبة واسقاط واحالة القضايا والمفاهيم والمشاعر والأفكار والقوانين، بل الأوطان والشعوب أيضاً.
فالحُكَّام والحكومات – مثالاً – تضع البلاد والعباد على سرير ارادتها ورغبتها، وتروح بالتقنين أو التخمين أو بأيّ شكل من أشكال الهوى، لممارسة طور من السادية على الناس وقناعاتهم أو على الوطن ومشكلاته.
وعلى سرير بروكرست الجديد تجد عدداً هائلاً من آلات البتر، يُقابلها عدد مماثل من أدوات المطّ. وكلها تندرج تحت مُسميات شتى: الممنوع والمحظور، العيب أو الحرام، المكروه والمشبوه، وسواها من دوغما وطوطم وتابو.
انك تجد بروكرست حاملاً سريره على كاهله في التعاطي مع آراء بعض المثقفين تجاه قضايا التاريخ والفكر ، أو تجده كامناً في تعاطي بعض الساسة مع قضايا السياسة والمجتمع ، أو في تعاطي بعض المُشرِّعين أو القُضاة مع نصوص القوانين أو القضايا المنظورة في ساحات القضاء ، حتى أنك تجده في تعاطي بعض النُّقَّاد مع نصوص الأدب من شعر وقصة ورواية ومسرحية ، مثلما تجده في تعاطي بعض الأطباء مع أمراضٍ عصيَّة على فهمهم أو قدرتهم على التشخيص ، وفي مثل هذي الأيام تصبح كل الأمراض عندهم كورونا أو مكرفس ! ، أو كما قيل يوماً : ” كله عند العرب صابون ” !
والمصيبة أن بروكرست الجديد قد يقترف حالتَيْ البتر والمطّ في آنٍ معاً، تجاه القضية ذاتها أو المفهوم نفسه، اذْ يشرع في البتر أولاً، فاذا به يكتشف أن البتر لم يكن مُوفَّقاً، فيلجأ حينها إلى المطّ. وفي هكذا مشهد تتجلى عشوائية التعاطي البروكرستي مع الموضوع، اذْ لم يَقِسْ الموضوع قياساً دقيقاً، انما كانت المسألة كلها لديه خبط عشواء ليس الاَّ.
ان كثيراً من قضايانا ومشكلاتنا ومفاهيمنا وقوانينا وآرائنا ومعتقداتنا تنام اليوم على سرير بروكرست، ولكن ليس في فضاء الأسطورة وانما في الواقع المادي المُعاش!
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.