كتابات خاصة

رمضان تأمل وتصوف (2)

يواصل “القيسي” الحديث عن التفاسير للقرآن الكريم ويخصص المقال للتفاسير المعاصرة تحدثت في المقال السابق عن أبرز كتب التفسير القديمة التي مثلت أسلوباً وطريقة مختلفة قليلاً عن غيرها، وفي هذا المقال سأتحدث عن التفاسير المعاصرة التي عشت معها متنقلاً أبحث عن إجابة لأسلئتي، وتفسيراً معاصراً أستطيع أن أقدمه باسم دين عالمي، كانت مدرسة الشيخ محمد عبده هي أكثر المدراس التي وجدت فيها بغيتي فبحثت عن تفاسير هذه المدرسة.
البداية مع تفسير المنار الذي ضم فيه الشيخ رشيد رضا خلاصة آراء أستاذه محمد عبده التي يلقيها في دروس التفسير، والتي بدأت من الفاتحة وحتى سورة النساء، ثم واصل رشيد رضا بعد موت أستاذه ولكنه توفي وهو بسورة يوسف، المنار موسوعة كبيرة في التفسير لو أنها اكتملت لكانت أكبر وأهم موسوعة تفسيرية تقف عند الأسئلة القديمة والجديدة، إثنى عشر مجلداً إلى سورة يوسف تميزت بأطروحات واجتهادات وتأملات قد تخالف الرأي التقليدي السائد في تفسير الآيات، يناقش صاحب المنار الآيات في دروسه ومجلته أولا ثم ينقل خلاصتها إلى التفسير، يحاور الأسئلة المطروحة في عصرنا حول الآيات ثم يقدم إجابات عقلانية وبلغة سهلة محشودة بكمية من الآثار التي تؤيدها أحيانا، لا أبالغ إن قلت أن رضا هو أكبر عقلية موسوعية معاصرة استطاعت توظيف التراث في الاجتهاد والتجديد.
إن تفسير المنار يعد تحولاً في تفسير وتأمل الآيات وسيبذر بعده مدرسة في تجديد الفكر الإسلامي وتفسيرات متأثرة به.
كان ما يميز صاحبا المنار ومن جاء من بعدهم من نفس المدرسة أن لديهم اطلاع كبير على الانتاجات الفكرية المختلفة في عصرهم فأدركوا كثيرا من الأسئلة التي تدور في ذهنية المسلم المعاصر الذي بدأ ينفتح على ثقافات مختلفة، وهذا ما يفقده كثير ممن جاء بعدهم حيث عادوا إلى الطريقة التقليدية في التفسير وكأن تلك الأسئلة غير موجودة.
من أوائل التفاسير التي تأثرت بمدرسة المنار، تفسير الشيخ جمال الدين القاسمي علامة الشام في كتابه “محاسن التأويل”، وهو موسوعة كبيرة في (17) مجلداً جمع فيه اللطائف والنوادر من مختلف التفاسير القديمة، مع أسلوب ولغة سهلة، لم يتوقف صاحبه عند الاستشهاد بتفاسير السنة بل انفتح على ما يراه حسناً عند غيرهم سواء كانوا زيدية أو معتزلة أو زيدية أو خارجية أو غيرها، بل حتى لو كانت لمؤلفات غربية، نقل كثيراً من آراء الشيخ محمد عبده، لم يكن بنفس أصالة المنار ولكنه إضافة مهمة له.
وممن تأثر بهذا المدرسة أيضاً الشيخ عبدالحميد بن باديس رائد النهضة الإسلامية في الجزائر، كان يلقي دروسه على تلاميذه طوال أربعة وعشرين عاماً، ولكنه لم يكن يدون ما يلقي، ولم يدون تلاميذه ذلك، ولكنه كان يكتب في مجالس معدودة من تلك الدروس وكان ينشرها في فواتح أعداد مجلة الشهاب، ويسميها مجالس التذكير، وقد جمعت هذه الافتتاحيات بعد وفاته في كتاب بعنوان “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير”.
وممن تأثر بهذه المدرسة أيضاً الشيخ أحمد مصطفى المراغي وهو أخو شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، والمراغي في تفسيره هو الأقرب لروح مدرسة المنار، لخص تفسير المنار بأسلوب بسيط ولغة سهلة مرتبة للقارئ المعاصر، بعيداً عن الحشو، واكتفاء بالمعنى القريب للآية، واصل على نفس منهاج المنار ولكن ليس بعقلية صاحب المنار فربما مر كثيراً على آيات اعتمد فيها التفسير التقليدي رغم إشكاله، حاول أن يبحث عن العلوم المعاصرة ليدمجها في كتابه ويؤيد بها تفسيره، حين أتلفت يمينا ويسارا بين كتب التفسير المعاصرة لا أجد سواه أنصح به لمن أراد تفسيرا مبسطاً مرتباً منظماً، وهذا ما جعل هيئة المعاهد العلمية في اليمن تعتمده كمنهج دراسي في كتب التربية الإسلامية، واستفادت منه أيضاً مناهج التربية والتعليم بشكل عام.
بحثت كثيراً عن هذا التفسير حتى وجدته في إحدى معارض الكتب في اليمن، لم يكن متوفراً بشكل كبير في المكتبات، فأخذته وكان رفيقاً لي لعدة رمضانات.
وممن سار بمنهج هذه المدرسة وجدد فيها شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت، أفقه فقهاء القرن العشرين برأيي، الرجل الذي كان يقول كلاماً كثيراً في كلمات قليلة، يأتيك بالخلاصات في عبارة موجزة محكمة، صوته القوي في الإذاعة المصرية حينها فتح باباً جديداً للدروس الدينية في الإذاعة، يشعرك في ثنيا كلامه أنه مطلع على الإشكالات المعاصرة حول الفكر الإسلامي، فيقدم الإسلام بصورة عالمية متسقة وبسيطة وواضحة، ولكن للأسف لم يكمل الشيخ تفسيره إذ كان للعشرة الأجزاء الألى فقط، ولم تكن طريقته كالتفاسير السابقة يشرح آية آية وإنما يكتفي بالتوقف عند بعض القضايا التي تشير لها  كل سورة ليناقشها، كما يمر على مقاصد السورة بكلمات محكمة موجزة.
كم تمنيت لو أن الشيخ أكمل تفسيره، فلغته جعلتني أقرأ كتبه كلها دون أن يفوتني كتاب واحد، حتى أن بعض لم يعد متوفراً لا ورقياً ولا الكترونياً ككتاب القتال في الإسلام، وإنما اضطررت لقراءته من مكتبة إحدى الجامعات، أما تفسيره فقد وجدته بعد بحث في أعلى رفوف إحدى مكتبات البيع بعد أن انهال الغبار عليه، وكنت حينها سعيداً كأني وجدت كنزاً، لأني لتوي خرجت من كتابه البديع “الإسلام عقيدة وشريعة”، هذا الكتاب الذي أثر فيني كثيراً وأخرجت بعد سنين كتابي “عودة القرآن” على منواله، فسميته أولاً “الإسلام عقيدة وشعائر وشريعة” فأضفت كلمة شعائر ليكون تقسيمه ثلاثي برؤية تختلف عن رؤية الشيخ ولا تبتعد عن روحه.. أخذت النسخ الثلاث المتوفرة في المكتبة من التفسير أنا وصديقي، ثم لم أعد أجد أي نسخة له لا في المكتبات ولا في معارض الكتب!! لقد جرفت السلفية كل إنتاج تلك المدرسة فصار البحث عن كتبها صعباً والوصول إليها عسيراً.
 ومن التفاسير التي تنتمي لهذه المدرسة وربما هو آخرها من حيث الأصالة والاجتهاد، تفسير الشيخ عبد الكريم يونس الخطيب الذي سماه “التفسير القرآني للقرآن” لقد شدني الاسم بالقوة، وكنت أهتف بداخلي وجدتها وجدتها، وجدت التفسير الذي أريد، لشيخ ينتمي لنفس المدرسة، كنت قد قرأت له آراء اجتهادية رصينة، فقلت إذن فقد وجدت ضالتي، ولكن رحلة الوصول لهذا الكتاب كانت هي الأصعب، لم أجده في كل المكتبات ولا في معارض الكتاب على مدى أكثر من عقد من الزمن، بحثت عن الدار التي طبعته فوجدت أنها دار الفكر العربي بمصر، وهذه الدار كانت تأتي كل عام ضمن معرض الكتاب ولكن دون هذا الكتاب، سألتهم فقالوا لم يعيدوا طبعه منذ فترة طويلة، إنها الفترة التي طغى فيها المد السلفي فأزاح هذه الكتب وأزاحتها دور النشر لما فيها من آراء مخالفة للسائد.
وبعد يأس من الحصول على الكتاب جاءني أحد الأصدقاء الأعزاء قبل سفره لمصر وقال هل تريد شيئاً من مصر، فطار إلى ذهني مباشرة ذلك الكتاب، فقلت نعم، أريد التفسير القرآني للقرآن، ابحث عنه في مكتبات مصر واشتري لي نسخة، بحث صديقي في المكتبات فلم يجده، ثم ذهب لمكتبة الدار التي طبعته لعله يجده في مخزنها فلم يجده، اتصل به وأخبرته أني سمعت عن سور الأوزبكية للكتب، ففيها تباع الكتب الخاصة بالأفراد الذين باعوا بعض مكتباتهم، مر على مكتبات سور الأوزبكية يسألهم واحداً واحداً فلم يجده، وفي أثناء سؤاله بأحدهم سمعه شخص وقال هذا الكتاب متوفر لدي في البيت فكم تدفع؟ طلب من صديقي مبلغاً كبيراً حين رأى الفرحة في عينيه، اشتراه صديقي ودفعت ثمناً كبيراً هو الأغلى بين كل كتبي التي اشتريتها، لقد أخذ نصف راتبي تقريباً.. وصلت إلي تلك الكتب بعد وصول صديقي من مصر فاعتبرت ذلك اليوم عيداً، لقد كنت أتصفح أوراق ذلك الكتاب القديمة بلهف جائع وجد طعامه بعد أيام من الصوم المتواصل، لم أنس ذلك الجميل من ذلك الصديق النبيل..
أطلت في الحديث عن هذه الكتاب لتعرفوا فقط كيف صار الحصول على كتب هذه المدرسة في فترة التسعينات والألفينات قبل أن تصبح سهلة ميسرة في الانترنت.
للشيخ الخطيب آراء جريئة في تفسير بعض الآيات يخالف فيه السائد بتأمل عميق للآيات، ولديه مباحث كثيرة في أواسط تفسيره، دونت بعض آرائه في كتابي، كرأيه في المعراج، وجمعه بين الآيات التي قيل فيها ناسخ ومنسوخ.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى