ربما كان للحجر الصحي في زمن كورونا دور في إعادتنا لتذكر منعطفات حياتنا، نتأملها ونلتقطها بالكتابة ونراجعها، ونراجع مسارنا في الحياة بأكملها، مع قدوم رمضان لهذا العام بدأت تقفز إلى ذاكرتي تلك اللحظات التي كنت أرتبها قبل رمضان، استعداد مختلف لشهر مختلف، إنها محطة سنوية للتأمل والتصوف، هكذا كنت أعتبر رمضان، تأمل هادئ في الآيات والأفكار، وتصوف روحي يطمئن القلب ويزيد من إنارة العقل، في كل سنة أختار بعناية كتاباً في التفسير وكتاباً في التصوف، كان أمامي في لوحة اللابتوب حوالي ستين تفسيراً أتنقل بينها مما أتاحته خدمة مقارنة التفاسير في المكتبة الشاملة، أتنقل بينها لأبحث فيما وجدته مشكلاً في التفاسير، أتأمل طريقة كل مفسر وأسلوبه وأقرأ تفسيره لآيات بعينها لأعرف منهجه واتجاهه، ومدى اجتهاده وإضافته من تقليده، ومدى توقفه عند ما هو مشكل.
وجدت تشابهاً كبيراً بين أكثر التفاسير القديمة، وقليلة جداً تلك التفاسير التي كانت تضيف رأياً جديداً، لذا كنت أتجه إلى تفاسير المذاهب التي لم تحويها المكتبة الشاملة بسبب الاختلاف معها، فذهب لتفسير الأباضية والإثنى عشرية والزيدية والصوفية والأحمدية، وأغلب التفاسير المعاصرة، وعلى رأسها أعظم التفاسير امتلاء بالمعرفة “تفسير المنار” وسأقف عند جميعها بتعليق سريع، ثم أناقش مشكلات تلك التفاسير وميزاتها، وأخلص إلى طرح منهجية للتفسير والتأويل أراها هي الأنسب لعصرنا ولمن بعدنا.
كلما اقتربت من القرون الأولى وجدت تنوعاً في الآراء واختلافاً، ففي عصر الصحابة والتابعين ستجد ثراء أكثر ثم يليهم عصر الأئمة وهكذا كلما تقدم الزمن تجد انحساراً وتعصباً وسيطرة لمذهب ورأي واحد وما عداه ابتداع كما يزعم المتعصبون، ستلاحظ في تفسير الطبري أول التفاسير التي وصلت إلينا، أنه ينقل اختلافات التابعين في معاني كثير من الآيات، صحيح أنه لم يحصر كل الآراء ولكنه جمع ما تيسر له فخرج بتأويلات عدة قبل أن تأتي الروايات فتحصر المعنى في رأي واحد من تلك الآراء، وتزعم أنه تفسير النبي؟! إن كان تفسيرا للنبي فأين كان من أهل القرنين الأولين؟!
جاء الماوردي من بعده ليختصر الآراء دونما ذكر أسانيد، عقليته الموسوعية أنتجت تفسيراً يختصر تعدد الآراء في الآيات، مع ذكر آراء لم يذكرها الطبري أحياناً، ربما كانت لشخصيات تنمني لمذاهب مخالفة لما هو سائد، وأحيانا يضع رأيه كاحتمال تقبله الآيات.
كان الزمخشري أول من خالف طريقة التفسير التي انتهجها الطبري، سموه تفسيرا بالرأي وسموا تفسير الطبري بالأثر، رغم أن الأثر كان يوماً رأياً ثم صار لمن بعده أثراً، لأن ذلك الأثر كان للتابعين أو لصغار الصحابة ولم يكن للنبي عليه السلام، ولذا كان من الطبيعي أن يختلفوا.
ربما أكبر التفاسير جمعاً للآراء في الآية هو تفسير الرازي، يليه تفسير القرطبي، مع ميزة في التقسيم عند الرازي وتوسع في مسائل غير فقهية ولذا سمي “التفسير الكبير”، وتميز عند القرطبي في نسبة الأقوال لقائليها وإشباع للمسائل الفقهية.
جاء بعدهما تفسير ابن كثير الذي ركز على تثبيت عقائد أهل الحديث، ووجه الآيات لتأكيد ذلك، وحشد الروايات التي قيل أنها تفسر الآيات، وهذا هو ما جعل المدرسة السلفية المعاصرة تنصح به لكل من أراد تفسيرًا للقرآن، وقد كنت أستغرب من إشهاره في العصر الحالي برغم أن هناك ما هو أوسع وأبسط وأسهل في التفاسير المعاصرة، وبما لا يختلف كثيرا عن التفسيرات القديمة.
بعد ذلك جاء تفسير الجلالين المحلي في النصف الأخير والسيوطي في النصف الأول، وهو تفسير صغير بسيط، من ميزته مراعاة السياق بشكل كبير، وخاصة سياق المخاطب التاريخي، مع عدم مراعاة كاملة لذلك، ومع حشر لبعض الإسرائيليات أحياناً، ولكنه يستحق أن يكون بديلاً عن ابن كثير للقارئ الذي يبحث عن المعنى بشكل مبسط ومختصر.
أما التصوف فكنت أعيش كل عام تجربة من التجارب محاولاً التوازن بين غذاء المشاعر والأفكار، حتى إذا ما وجدت هذه الطريقة غير مناسبة أو متسقة مع رؤيتي الفكرية التي أراها متسقة ومن ثم لابد أن تتسق معها التجربة الروحية، بدأت بمختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي، وهو كتاب اختصره من كتاب منهاج القاصدين للفقيه والواعظ الذكي ابن الجوزي، الذي اختصره من إحياء علوم الدين للغزالي بعد أن رأى فيه أحاديث ضعيفة وغرائب صوفية لا تتسق مع العقل الفقهي.
لم تكن قراءة لكتاب ابن قدامة وإنما كانت حياة مع توجيهات الكتاب السلوكية، وهي توجيهات سلوكية وروحية، يعطيك أسرار العبادات بجوار أشكالها، محاولاً سد حالة الفصام التي كانت بين الفقهاء الذين ركزوا على الشكل بما قد يفقد الروح أحياناً، وبين المتصوفة الذين ركزوا على المعنى والروح بما قد يفقد الشكل أحياناً، كنت أعيش مع كلمات الكتب أطبقها في الواقع ما استطعت وكانت اللذة الروحية التي أشعر بها بداخلي وشفافية الروح هي أكبر محفز على المواصلة في ذلك الطريق، كان رمضان محطة للتزود الكبير لتبقى مستمرة طوال العالم بإشعاعها.
كان لتلك الشفافية في الروح دور في اكتشاف المعرفة كنت ألاحظه حين تأملي وبحثي في قضايا الفكر الإسلامي، وهذا جعلني أؤمن بنسبة ما في طريق “العرفان” للوصول إلى الحقيقة، تلك الحقيقة التي تحتاج جهداً كبيراً منا لنصل لجزء منها، جهد يتعاضد فيه “صفاء القلب” الذي ستقذف فيه، و”إشتعال العقل” الذي سيضيئها ويصل إليها، واستعانة في قضايا الوجود ب”كلمات الوحي” التي جاءت لتعطيك نقطة البداية التي تنطلق منها، ونقطة النهاية التي ربما لن يستطيع عقلك الوصول إليها.
ربما كان للحجر الصحي في زمن كورونا دور في إعادتنا لتذكر منعطفات حياتنا، نتأملها ونلتقطها بالكتابة ونراجعها، ونراجع مسارنا في الحياة بأكملها، وربما وجد فيها غيرنا ما يساعده على مد الجسور بيننا، فمعرفة السياقات لآراء كل فرد تساعد الآخر في فهمه، إن أراد الفهم، أما إن أراد غير ذلك فلن يكفيه شيء، ليس بالضرورة أن يتطابق الناس في اختياراتهم لكن من الضروري أن يتفاهموا كي يحافظوا على حقهم في الحياة، ومن ثم حقوقهم الأخرى.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.