لم يُبْتَلَ اليمن بشيء قدر ابتلائه ببعض من حكموه، وهم للأمانة بعض قليل.
لم يُبْتَلَ اليمن بشيء قدر ابتلائه ببعض من حكموه، وهم للأمانة بعض قليل. فهؤلاء جمعوا بين ضحالة الوعي السياسي والجهل بالاقتصاد والاجتماع من جهة، وقذارة اليد والضمير من جهة ثانية، وانعدام الوطنية ثالثاً. وهذا ما حدث لهذي البلاد في فترتي التشطير والوحدة على السواء.
ففي الجنوب كان من حكموه – منذ الاستقلال حتى الوحدة – على قدرٍ كبير من النقاء الثوري وطهارة الذمَّة وشرف المسؤولية الوطنية (باستثناء البيض) ولكنهم للأسف الشديد أوغلوا في الصراع الدموي على السلطة، وفي تبنِّي سياسات متطرفة في السياسة والاقتصاد. وفي الشمال كانت أرقى الصفات وأنقى المناقب لصيقة بمن حكم البلد، من السلال إلى الحمدي، برغم تخبُّطهم في ادارة شؤون الدولة والمجتمع من ناحية، وتورُّطهم في صراعات ذات منزع طائفي من جهة أخرى. أما في عقد الثمانينات فقد استشرى الفساد على نحوٍ لافت وإنْ رافق ذلك شيء واضح من الطفرة التنموية والوفرة والاستقرار.
وقد ظللنا نظن – لكن بعض الظن اثم – أن آخر الرؤساء (صالح والبيض) هم أسوأ ما حدث لليمن على صعيد الرئاسة، برغم انجازهما أعظم حدث في تاريخ اليمن الحديث. وأن الفساد والعناد – وهما آفتان مُحدقتان بكل رئيس دولة – ربما يتوقفا، ولو عند حدٍّ معقول، لدى أيّ رئيس يأتي بعدهما. غير أن ” شهاب الدين أضرط من أخيه “، اذْ جاء اللاحق أكثر فداحة من السابق، فإذا به يضع الدولة والمجتمع والجمهورية والوحدة والبشر والحجر في مجرى سيل عرمرم، ثم ارتمى على سرير وثير وراح يغطُّ في نوم عميق!
جمع الرئيس الأخير كل سيئة في سيرة وسريرة كل رئيس يمني سابق، ثم خلطها بماء الغباء السياسي وشرب هنيئاً مريئاً. وهكذا ترك اليمن يتفكك الى عدة كانتونات: واحد في قبضة سُلالة، وثانٍ تحت أقدام عصابة، وثالث في تصرُّف حزب. كما تركه يحترب على نحوٍ لم تشهده ساحة الاحتراب اليمني الأزلي على مرِّ التاريخ، وعلى ثلاث جبهات: محلية وإقليمية ودولية. أما هو فقد سلَّم خطامه لأيدٍ شتى: أُسرية وشللية وخارجية، مكتفياً بالمقام في لوكاندة فارهة في عاصمة فاحشة، يلتهم طعاماً دسماً بين فترتَيْ راح ومُستراح، حتى صار أسمن وأحمق من كبش خديجة ديريه رحمة الله عليها!
كما راح يجمع حواليه شرذمة من الوزراء والمستشارين والكَتَبَة لا يرتقون الى كونهم حتى مجرد موظفين، غلبت عليهم النفعية الضيقة والانتهازية الواسعة على حساب المصلحة العامة والكرامة الشخصية معاً. فلا هم يُشيرون بقرار عقلاني، ولا هم يعترضون على قرار صبياني، بل يسوقون المبررات والأعذار لشخص الرئيس في كل ما يقترفه من أخطاء ونكبات، ثم يُخوِّنون كل معترض على سياساته وقراراته. وقد أغدق عليهم بوفير العطايا، فأغدقوا عليه بتبرير الخطايا. وإنها والله لحاشية كالغاشية !
ان اليمن اليوم لم يعد على كفّ عفريت (كما كنا نُردّد خلال الأزمة التي سبقت الحرب) بل سقط عن كف العفريت الى جوفه وبات في مجرى الأمعاء. والمجنون قبل العاقل صار يدري طبيعة العُصارة التي ستُلقيها تلك الأمعاء قريباً في العراء.
وقد باتت تتردد في أروقة السياسات ومطابخ المؤامرات لدى القوى الدولية المتحكمة بمصائر الدول والشعوب أن أيّ حل لمحنة اليمن سيكون خلواً من شخص هذا الرئيس البائس في كل الأحوال. وهو يدرك هذه الحقيقة جيداً أكثر مما يدركها الآخرون، ولكنه صار في حال من لا حول له ولا قوة بعد أن فقد كل أوراقه السياسية وقاعدته الجماهيرية، كما فقد أظافره وأنيابه اثر أن وضعها رهناً لدى إدارة اللوكاندة !
في العام 1983م – إنْ لم تخُنّي الذاكرة – كنتُ أتناول طعام الغداء في احدى المنشآت العسكرية الرابضة في ضاحية من ضواحي عدن. كان هو على بُعد بضعة أشخاص قُبالتي على المائدة (كان يومها نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة) فرأيته يلتهم لحم الكبش الذي ذُبح على شرف زيارته، كمن لم يذُق طعم اللحم منذ ولادته. دنوتُ من الضابط القاعد بجواري لأسأله: من ذلك الكبش الذي يلتهم هذا الكبش؟ فضحك الرجل وأخبرني بهويته. لحظتها أيقنتُ بأنه مجرد كبش كبير في بدلة ضابط كبير. لكنني لم أظن قط بأنه سيغدو في يومٍ من الأيام رئيس جمهورية!
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بأي حالٍ من الأحوال عن “يمن مونيتور”.