نحكم من خلال دولة ومؤسسات، ان أعطبت أو اعوجت يمكن إصلاح اعوجاجها، خير من أن نحكم من خلال مليشيا نثور تطلعا للدولة الضامنة للمواطنة والحريات والعدالة، مهما اختلفت التسمية، يشترط ان لا تخلوا من دسم تلك القيم كنهج سياسي، يقوده وعي نخبوي، وضغط شعبي مساند .
ويشير مصطلح الثورة إلى القطيعة مع سلبيات الماضي السياسي وبناء مستقبل سياسي جديد مستفيدا من إيجابيات ذلك الماضي وتطويرها مع اضافات جديدة، ولن يتم ذلك دون إرساء نظام مؤسساتي خالي من عفن الماضي وأحقاده وضغائنه وسلبياته.
يصاحب تلك العملية بروز وعي اجتماعي واسع يسهل عملية التغيير، وعي يؤهل الجماهير أن تكون مصدر أساسي للسلطات، ولا تقبل ان تكون مجرد أدوات لأجندات سياسية (أيديولوجية/ طائفية/ مناطقية) .
عملية التغيير التي لا يقودها وعي، لا تجعل من الجماهير مصدر للسلطات، بل مجرد أدوات لسلطة تغتصب حق تلك الجماهير، وتبدأ عملية الاغتصاب بتشكيل أدوات العنف للسيطرة، تشكيل أجهزة الأمن والقوات المسلحة، بمعايير مليشيا، مما يجعل من الدولة ومؤسساتها مجرد فرع من تلك الأجهزة التي تخدم أمن الجماعة أو الحزب، ويتم تعطيل أي مؤسسة تهدد ذلك الأمن، فتفقد الثورة قيمتها الانسانية والاجتماعية، يبرز العنف كواقع لفرض اجندات، فيها من الانتهاكات الكثير، وهنا يأتي دور الوعي في رفض تلك الحالة، ويتشكل غضب وسخط شعبي يرفض ذلك الواقع، ويبقى القليل من الجهل والعصبية المساندة في مقاومة هذا الغضب، وتبرز الحاجة لخطوة تصحيح مسار الثورة.
نحن في اليمن جنوبا وشمالا، لازال الحاضر يقاوم ذلك الماضي وأدواته في الشمال والجنوب معا، ذلك الماضي الذي ظهر بقوى أكثر وحشية، ونراه بممارسات أكثر سلبية وتدمير، رافضا التطلع للمستقبل الذي يتوق له الجميع، ويقاوم تطلعات الناس للدولة والتصالح مع الذات والتسامح مع العام.
تنبهنا لتلك الانحرافات الخطيرة مبكرا، والتمعن في ثقافة وسلوك وتناقض المنصة، الانحرافات الخطيرة في مفهوم الثورة والتغيير معا، في مفهوم الديمقراطية، في تعطيل مؤسسات الدولة، سياسة قادت ولازالت تقود اليوم لإعادة انتاج نمط الاستبداد، بشعارات زائفة.
سياسة خبيثة تضرب أركان الدولة وتحطم مؤسساتها، لترسيخ مؤسسات هشة تابع للمليشيات، وما كان يطلق مصطلح مليشيات عبطا، بل كان يعبر عن ثقافة وسلوك وتكوين تلك المكونات، التي كانت مناطقية جهوية طائفية أكثر مما هي وطنية ، تفتقد للنمط المؤسسي، مما جعل منها رؤوس مختلفة، غير منضبطة لعقيدة وطنية واحدة، تتناحر وتتقاتل لأتفه الأسبابوالدواعي، مما جعلها مصدر قلق للأمن والسلم الاجتماعي، في غير مهامها المفترضة، كصمام أمان للأمن والسلم الاجتماعي، كمؤسسات تخضع لسلطة الدولة، لا لسلطة الأفراد والجماعات التي لم ولن تستطيع أن تكون دولة تمثل الناس وتحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم .
الكثير منا ساهم في القضاء على الدولة، كمؤسسات يمكن إصلاح اعوجاجها، اذا ما توفرت نوايا حقيقية في دعم مؤسسات الرقابة والمحاسبة والقضاء والنيابة، كمؤسسات مهنية مستقلة، بدون وعي حمل البعض معول الهدم بمبررات عقيمة، دمر أساس تلك المؤسسات، وعندما شعر بغياب الدولة وفقد كثير من مصالحه في غياب تلك الدولة، بدأ يصرخ اين الدولة؟! يبحث عنها بين داعميه ومحرضيه، لم يجد غير مليشيا ولصوص وناهبين وباسطين وقتله ـ ومرعوبين ـ والمرعوب يستخدم كل أساليب البطش والتهور والنهب والتخريب .
ما أمسنا اليوم لخطوة تصحيحية لمسار الثورة، إعادة بناء مؤسسات منها تصدر القرارات السيادية والمصيرية، مؤسسات مهنية تخصصية، بعيدا عن استغلال الشارع بالشكل العفوي الذي نراه اليوم لفرض قرارات هي في صميم مهام المؤسسات، استغلال الناس ومشاعرهم وحماسهم بشعارات زيفا لتنفيذ اجندات سياسية في خضم الصراع القائم .
تلك هي ثقافة المليشيا التي تضع نفسها بديلا للمؤسسات، وترفع البندقية في وجه أي قرار مؤسسي لدولة، بينها وبين الدولة عداء وقطيعة، إذا وجدت الدولة، تدان المليشيا، والقانون والنظام يحد من تماديها وتهورها وبطشها وعنجهيتها .
نحكم من خلال دولة ومؤسسات، ان أعطبت أو اعوجت يمكن إصلاح اعوجاجها، خير من أن نحكم من خلال مليشيا وعصبة (طائفة ومنطقة) في غياب دولة ومؤسساتها يغيب معها النظام والقانون، ونقع تحت سلطة غاشمة لا قانون يحكمها ولا نظام يضبطها.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.