ما من قارئ للنص الديني بقصد تفسيره أو تأويله إلا ويستبطن مقولات قبلية تكون عاملاً في توجيه قراءته، وهذا واحد من أسباب اختلاف التفسير والتأويل زماناً ومكان ما من قارئ للنص الديني بقصد تفسيره أو تأويله إلا ويستبطن مقولات قبلية تكون عاملاً في توجيه قراءته، وهذا واحد من أسباب اختلاف التفسير والتأويل زماناً ومكاناً.. ولكن هل يمكن تقريب المسألة لتكون أكثر موضوعية، ومن ثم تتقارب ولا أقول تتطابق وجهات النظر؟
كاتب هذه السطور لم يخرج عن تلك القاعدة، فهو يستبطن قيماً فطرية يرى أنه من غير المعقول أن تخالف الدين، إذ هي مقياس لصحة الدين من وجه نظره، فقيمة الحرية والعدالة والمساواة وكرامة الإنسان والرحمة، قيم يحترمها كل عقل إنساني وإن اختلف في بعض تفصيلاتها، وحين اتجه الكاتب إلى دراسة مقاصد الشريعة ثم مقاصد الدين لم يكن مقتنعاً بما كتب في ذلك تماماً، إذ كان المدخل لمقاصد الشريعة هي العقوبات التي اشتهرت في المذاهب، بعضها لها أصل قطعي وبعضها ظني، فقد انطلقوا من عقوبة الردة “الظنية” ليؤكدوا مقصد حفظ الدين، ومن عقوبة القصاص “القطعية” ليؤكدوا حفظ النفس، ومن عقوبة السكر “الظنية” ليؤكدوا مقصد حفظ العقل، ومن عقوبة الزنا والقذف ليؤكدوا مقصد حفظ النسل والعرض، ومن عقوبة السرقة ليؤكدوا مقصد حفظ المال، وبرغم قبول هذا المقاصد بعد نخلها وحذف بعضها إلا أن المدخل لم يكن دقيقاً لدراسة مقاصد الدين.
لماذا كانت البداية مع مقاصد الدين؟
ما من فكر أو نص طويل في توجيهات ما إلا وسيحدث اختلاف في تفاصيله، وينطبق هذا على النص الديني أيضاً، والمقاصد بالنسبة لذلك النص خطوط كبيرة تساعد الفرد حين يضيع في التفاصيل، وحين يتيه على الفهم، ومن هنا تأتي أهمية دراسة المقاصد وفهمها، فهي بمثابة الروح التي تنفث الحياة كلما قتلتنا التفاصيل أو تاهت بنا.
في بداية بحثي عن مقاصد الدين قلت لماذا لا نذهب في البحث عن النصوص المعللة، تلك النصوص التي تعلل سبب إرسال الرسل، وسبب إنزال الكتب، وسبب وجود الإنسان، وسبب تكليفه، فهناك سنجد الخطوط العريضة التي تعصمنا في تأويل أو تفسير أي نص آخر، وحينها لن نخاف أو نتردد في تفسير وتأويل أي نص ما دمنا نمتلك الأدوات الكافية والمقاصد الواضحة.
لقد وجدت دونما تكلف أن تلك القيم القبلية التي ذكرتها سابقاً موجودة بدرجة عالية من الوضوح مع تلك الآيات المعللة بالعلل السابقة، فقد كانت العدالة وسعادة الإنسان والرحمة هدفاً لإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكانت الحرية والكرامة سبباً لتكليف الإنسان في الأرض، وكانت المساواة هدفاً لرسالة الدين، ومع البحث وجدت مقاصد أخرى للدين كالتوحيد والتزكية وتعليم الحكمة، وكانت هذه المقاصد الأخيرة خاصة بباب العقائد والشعائر، بينما الأولى خاصة بباب الشريعة.
أعدت تنظيمها وترتيبها وفق ذلك التقسيم لتظهر لي الصورة التالية:
مقصد العقائد: التوحيد
مقصد الشعائر: التزكية
مقصد الشريعة: إعمار الأرض بقيم: العدالة والحرية والكرامة والمساواة والرحمة.
هذا التقسيم الثلاثي يقابله في التراث (العقائد والعبادات والمعاملات) ولكن التسمية أعلاه أدق وأقرب لمصطلح القرآن.
و هذه المقاصد كلها في الأبواب الثلاثة هي مقاصد الدين، ومن هنا نعرف الفارق بين مقاصد الدين ككل، ومقاصد التشريع التي تخص تنظيم المعاملات بين الإنسان وأخيه الإنسان، لذلك نجد أن قيم أو مقاصد التشريع يمكن أن يتفق عليها الناس بمختلف مذاهبهم وأديانهم، وتبقى المقاصد الأخرى خاصة بالمؤمن في دائرته الخاصة.
والآن دعونا نتأمل تلك الآيات التي جاءت بالخطوط العامة للدين، بالمقاصد العليا، بالأهداف الرئيسية للرسالة، لتكون لنا هادياً في فهم وتفسير وتأويل النص الديني.
العدالة: يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحديد:25].
الحرية: يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[الأحزاب:72]، والأمانة ليست سوى حرية الاختيار بين الخير والشر والحق والباطل، وهي حرية مسؤولة لذلك كانت صعبة.
المساواة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات:13].
كرامة الإنسان: ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[الإسراء:70].
الرحمة: يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107].
السعادة: يقول تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[طه:1-2].. بل لتسعد.
إعمار الأرض: يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[هود:61].
التوحيد: يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36].
التزكية وتعليم الحكمة: يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[الجمعة:2].
وكل هذا اختبار في الدنيا لمن ينجح في تلك القيم: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك:2]؛ فمَن أحسن العملَ فقد نجح ومَن أساء فقد فشل.
وهنا قد يقول أحدهم: وحتى فهمك لهذه الآيات ليس خارجا عن استبطان مقولات قبلية، أقول له: نعم، ولكن لاحظ مدى بساطة فهمها ووضوحه واتساقه لتعرف أن موضوعيتها قائمة بالفعل، فتلك المعاني لم تكن غامضة ولا متكلفة ولا معقدة في الآيات، وهذا ما يجعل لها قيمة موضوعية في الدين.
ماذا لو أن أولئك الشباب الذين ينظرون بسخط عالي على الدين والإله قد اقتنعوا بتلك المقاصد العليا وطبقوها بحسب رؤيتهم وقالوا هذا مراد الإله والدين، أوليس أفضل من اجتثاث فكرة تعيش في أعماق الإنسان وخاصة المسلم؟ أليس ذلك معيناً على استنهاض هذه المجتمعات بالعاطفة الدينية العاقلة لتنطلق في نهضتها وتنميتها، ومن هنا أكرر أن فكرة “ضد الله والدين” ليست فكرة عقلانية، لأنها ببساطة ليست واقعية أولاً ،ولأنها ثانياً تحصر الإنسان في نطاق نسبي مادي بينما الحياة متجاوزة لذلك، وعلاقة الإيمان مع العقل علاقة تكامل لا إلغاء، ومن يلغي الإيمان في مقابل العقل كمن يلغي العقل في مقابل الإيمان.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.