يعد جَمْع الحديث النبوي وما تبعه من نقد للرواة؛ فنّاً ومنهج توثيق، لا مدرسة خاصة يحتكرها تيار مُعينة، فقد أولى الاهتمام به كثير من المهتمين بالتصنيف والتأليف من سائر المدارس، وتخصص فيه أشخاص من مختلف التيارات، وكان الصَّف الأول من الحفاظ الذين عاشوا في القرن الهجري الثاني غير محسوبين على مدرسة معيَّنة، وكان تقييم بعضهم بعضاً يتم على أساس «صدق الرواية، لا نوع المذهب»، ولهذا نجد كثيراً من مشاهير الرواة يوصفون بأنهم شيعة أو السنة أو قدريّة أو خوارج أو نواصب أو مرجئة، ورواياتهم مُعتَمَدة لدى الجميع وهي في أهم الكتب التي دُونت في الحديث، ابتداءً من (جامع معمر بن راشد) المتوفى سنة (154هـ)، ومروراً بمصنفات أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وجوامع البخاري ومسلم وابن خزيمة وأصحاب السنن والمسانيد إلى ما بعد (300هـ)، وانتهاء بالمعاجم والمشيخات والأماليات، وما تضمنت وتواريخ البلدان وكتب الرجال من الروايات إلى وقت متأخر.
ومما يؤكد أن تدوين الحديث فناً من فنون العلم، وليس مدرسة مذهبية خاصة؛ أننا نجد في المجاميع الحديثية سائر الأحاديث التي يحتجّ بها جمهور أهل السنة وجمهور الشِّيعة والمعتزلة والخوارج، بما في ذلك الأحاديث التي يحتج بها بعضهم على بعض؛ لأن الغّرّض من جَمعها حين ذاك كان مجرد الجمع والتَّوثيق، فتلك المجاميع تراث للجميع دون استثناء.
وعلى هذا لن نكون بحاجة إلى مراعاة أمزجة المتمذهبين عند دراسة الحديث وتقييمه، بحجة أن هذا الفريق لا يَقْبل ما خَلُص إليه الفريق الآخر مادام التقييم يأتي على أساس علمي يَعْتَمد معيار «دقَّة الرواية» و«جودة الحفظ»، من حيث هي قيمة – في توثيق الرواية – سامية فوق المذاهب.. أما ظهر فيه النَّفَس المذهبي والتَّحيُّز، فهو أمر مرفوض وشاذّ ينبغي رده إلى الأصل لا الذهاب معه في أي اتجاه أو الاحتجاج به أيًا كان.
وما يدعيه أي فريق من أن مُخالفيه إنما يضعِّفون أو يُصححون انتصاراً لمذهبهم فهو ليس على إطلاقه، خصوصاً إذا كان في عصر متقدِّم، وصدر عن المتخصصين في علم الرواية من أهل الدين والورع، وألمحوا إلى العلل والأسباب التي بنوا حكمهم عليها، ولم يظهر أي دافع المذهبي في التضعيف والتوثيق والقبول والرد، كما هي عادتهم.
هذا بالنسبة لأصحاب الرواية حينما يتعاملون معها كفَنّ من فنون التوثيق، أما من يغلب عليهم جانب التَّمذهب، سواء من الفقهاء أو المحدثين أو المتكلمين أو المؤرخين، فإنهم يراعون في جَمعهم وتصنيفهم ونقدهم الرواة الانتصار للمذهب، وأكثرهم يذكر الهدف الذي دفعه للتصنيف والجمع، وهذا النوع بلا شك يؤثر في الانتقاء والترجيح، والتعديل والتجريح، والباحثون – بالتأكيد – يفرقون بين هذا وذاك.
على أن علماء الرواية خَصَّصوا بحوثاً للنظر فيما ظهرت فيه الأهواء المذهبية، سواء ما تعلق بلفظ الرواية، أو بنقد الرواة، نحو: ما تفرد به شيعي أو سني مما يؤيد مذهبه، أو ما قاله الأقران في بعضهم، فهو مما قرر خُبراء التَّوثيق أن يوضع في دائرة الدراسة والتَّمحيص، ووضعوا له معايير خاصة؛ لأن قبوله أو ردّه مما تُسرع إليه العاطفة والأهواء، ويتأخر عنه المنطق والعقل والتَّثبت.
وهنا لا بد من التنبيه على أن لمدرسة أهل السنة خصوصية في جمع الحديث والعناية به لكونها تعتمد بشكل كامل على الرواية، فهي الواسطة الوحيدة عنهم لمعرفة السُّنة التي مضى عليها السلف الصالح ورووها عن النبي الكريم، لذلك تحظى الرواية لديهم بمكانة واهتمام خاص.
واعترافاً بجهود علماء الأصول والحديث نُقدِّر أن قواعد علم الرواية التي أرسوها هي من أرقى وأدق مناهج توثيق نقل الأخبار إن اجتمع فيها تقييم السَّند وتتبُّع علل النَّص، وعَمِلت بشفافية ودون رضوخ لأي نوع من أنواع النزعات العصبية، وتلك القواعد كثيرة ومُتَشعِّبة، وما يعنينا منها هنا يمكن تلخيصه في الإشارة إلى أن تلك القواعد على نوعين:
أحدهما: قواعد عِلمية ومنطقية، تُعنى بنقد وتقييم طريقة رواية النص؛ لتوفير أعلى قدر من الظن بصحته. وهذه مما يتعين التزامها والتأكيد عليها وتطويرها بما يخدم الهدف الذي وُضعت من أجله.
وثانيهما: قواعد أُنْتِجت للتملص من صرامة وفيْصلية النوع الأول، وفرض استثناءات لتمرير الخيارات المذهبية والسياسية، وتبرير مخالفات بعض المحدثين، وهذه لا يُلتفت إليها ولا يُراعي مقتضاها ولا يُقاس عليها، ويُقلل المحققون من حضورها، ويُرد الشَّاذ منها إلى المسار الصحيح، لا أن نذهب معها حيثما ذهبت بنا.
فمن الخطأ أن يُفرض العمل بقاعدة يُنبني عليها قبول أو ردّ نصوص مهمة؛ لمجرد أن فلاناً عمل بها، أو نحكم في روايةٍ بصحةٍ أو ضعفٍ لأن فلاناً حَكَم بمثل ذلك. والصواب هو أن يتقيد الجميع بالقواعد والمصطلحات الموضوعية المبنيَّة على حقائق منطقية يدرك سائر العقلاء جدواها؛ لأن البناء على قاعدة غير صحيحة يُعد جهداً عبثيّاً.