جاء فيروس كورونا ليقول للبشرية: مصيركم واحد على هذا الكوكب، وما يصيب فردا في أدغال الغابات قد يؤثر على إنسان ناطحات السحاب، تكاتفوا جميعكم لتحفظوا وجودكم، لا تظنوا أن بإمكانكم النجاة لوحدكم، ساعدوا الشعوب المسحوقة أو على الأقل ارفعوا أيدكم عنها.
كانت الدول المتقدمة تنزوي لتجعل إنسانها في أعلى قمة الرفاهية بينما تصنع الحواجز الكبيرة أمام الدول الفقيرة ولا تبالي إن سحقت أو دمرت أو أكلتها الحروب والأوبئة بل أحيانا كانت تساهم في تغذية حروبها..
جاء فيروس كورونا ليقول للبشرية: مصيركم واحد على هذا الكوكب، وما يصيب فردا في أدغال الغابات قد يؤثر على إنسان ناطحات السحاب، تكاتفوا جميعكم لتحفظوا وجودكم، لا تظنوا أن بإمكانكم النجاة لوحدكم، ساعدوا الشعوب المسحوقة أو على الأقل ارفعوا أيدكم عنها.
صحيح أن تقدم الإنسان يأتي من الدول المتقدمة علميا ولكن أيضا قد يأتي منها الهلاك إن تنازلت عن المعيار الأخلاقي في التقدم العلمي، منذ مدة وأنا أتابع آخر تطورات العلم في الطب وكان التقدم بشكل كبير صينيا لكن دار معه خلاف شديد حول مدى أخلاقية بعض الأبحاث، هل نحافظ على قيم أخلاقية خلال البحث العلمي أم نجعل الباب مفتوحاً بلا أي معيار مما قد يهدد الوجود البشري؟ أظن أن على العالم أن يتمسك بالمعيار الأخلاقي كي يحافظ على البشرية في هذا الكوكب.
كانت هذه مقدمة أخاطب بها الإنسان كل الإنسان وخاصة إنسان الدول المتقدمة، أما إنسان الدولة المتخلفة وخاصة ابن ثقافتنا فقد وجدته انقسم في مسألة كورونا لثلاثة أقسام، قسم تعامل مع المسألة بحكمة واتزان، وقسم ثان ذهب إلى الهجوم على الدين وأن أهل الدين عجزة أمام هذا الفيروس وأن العلم وحده هو من سيجد العلاج، بينما يظل أهل الدين في خرافاتهم! للأسف لم يتعلم هؤلاء من الفيروس ذاته أن يتواضعوا ويعترفوا بضعف الإنسان، ذلك الإنسان الذي ظن أنه صار متحكما بكل شيء في الدنيا بعد اكتشافاته المذهلة جاءه فيروس صغير فأوقف العالم كله على قدميه وعطل الحياة كما لم يحدث من قبل.
لم يقل الدين أنه جاء بديلا عن العلم ولا بديلا عن العقل، وإنما جاء مكملا له، ولا يعلم قيمة الإيمان بعد العلم إلا الراسخون في العلم، فالعلاقة بينهما ليست علاقة إلغاء وإنما تكامل، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} : فكلما ترسخ العالم في عالم المادة قاده ذلك إلى ضعف قدرتها التفسيرية فآمن بما وراءها، وكلما تعمق في فهم الدنيا وسننها قاده ذلك إلى الإيمان بحياة أخرى تكمل الصورة الناقصة في الدنيا، وكلما تعمق في فهم النسبي الذي يحتاج إلى غيره آمن أن هناك مطلق لا يحتاج إلى غيره، وكلما تعمق في فهم عالم الشهادة آمن أن هناك عالما غيبيا ينسجم ويتفاعل مع هذا العالم ويؤثر فيه، وكلما ترسخ في العلم اتسع له المجهول فلجأ إلى الإيمان، وكلما تعمق في فهم الواقع كان فهمه لنص الوحي أعمق.
هذه هي خلاصة علاقة الإيمان بالعلم والتي يتفهمها الراسخون في العلم أكثر من غيرهم.
وقسم ثالث ذهب يفسر المسألة بطريقة ساذجة على أنها عقوبة من الله لشعب بعينه لأنه عمل كذا، ثم مع تغيرات الفيروس وتوسعه كان يغير تأويلاته حتى رفع يديه بالاستسلام أن الأمر يهدد الجميع، فبعضهم عقل وبعضهم استمر في الغي بطرق مختلفة.
أما الخطاب الديني الرسمي في تعامله مع هذه المشكلة فقد كان في غالبه إيجابيا في الدعوة إلى اعتزال الجمعة والجماعات حذرا من انتشار الفيروس وانتقال العدوى، وقليلة تلك الخطاب التي غاب عنها روح ومقصد الدين في الحفاظ على الإنسان، وقد استغربت من بيان ما يسمى بهيئة علماء اليمن والذي لم يكن تقديره سليما تجاه هذه الكارثة الإنسانية، ولم يعمل بسد ذريعة المفسدة رغم خطورتها ورأى الانتظار لحين تقع الكارثة، ولست أدري كيف غاب عن هؤلاء مقصدان مهمان من مقاصد الدين أحدهما مقصد حفظ النفس ونحن أمام فيروس سيحصد الآلاف وربما أكثر، ومقصد رفع الحرج الذي طبقه الفقهاء على مسائل أهون من هذه بكثير.
لقد تذكرت في هذا المقام تطبيقان نبويان لمسائل أهون من فيروس يتكاثر بهذه السرعة مما قد يفقد الناس حياتهم.
الموقف الأول:
روى البخاري ومسلم واللفظ له ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : ” إِذَا قُلْتَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، فَلَا تَقُلْ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، قُلْ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ ” ، قَالَ : فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ ، فَقَالَ: ” أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا ؟! ، قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ ، فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ “.
هذا الحديث متوافق تماما مع مقاصد الدين في التيسير ورفع الحرج.. قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)[الحج آية: (78)].
تأملوا معي قول النبي عليه السلام لأصحابه “صلوا في رحالكم، في بيوتكم” فقط حتى لا يقعوا في الحرج بالمشي في وحل المطر، خشي عليهم المشي في الطين فقط فكيف لو كان الأمر أعظم حين يكون هناك ضرر يفقد الناس حياتهم!! ثم قاس الفقهاء على ذلك الريح الشديدة والبرد الشديد وغيرها..
والحديث هنا عن المستوى الثاني من مستويات المصالح للإنسان وهي دائرة الحاجيات حتى لا يقع الفرد في الحرج والمشقة، أما المستوى الأول وهو دائرة الضروريات حيث لا يقع الفرد في الضرر فهو مستوى أهم وأعظم، وموضوع انتشار الفيروس يدخل ضمن هذا المستوى.
الموقف الثاني:
روي البخاري ومسلم عن النبي عليه السلام قوله: “مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزلْنَا أَوْ: فَلْيَعْتَزلْ مَسْجدَنَا”.
والحديث يتوافق مع مقاصد الدين في حفظ النفس وهو مقصد جاء من استقراء آيات والأحكام.
تأملوا معي: طلب النبي عليه السلام ممن أكل ثوما أو بصلا اعتزال الناس حتى لا يؤذيهم برائحته فقط، وهو أذى في المستوى الثالث من المصالح “دائرة التحسينات”، وهي الدائرة التي تجعل حياة الفرد أحسن سعادة، وعلى أعلى تقدير يمكن اعتبارها في المستوى الثاني من مصالح الإنسان وهو “دائرة الحاجيات” إذا اعتبرنا ذلك مما يسبب الحرج والمشقة للآخرين رغم أنه أقل من ذلك، فكيف حين يكون اعتزال الفرد لأجل حماية الإنسان في المستوى الأول “دائرة الضروريات”، وهي التي تمنع الضرر عنه!!
فخروج الفرد لمكان مزدحم مع احتمال وجود الفيروس في الفترة الأولى التي لا تظهر فيه الأعراض أولى بالاعتزال من رائحة ثوم أو بصل.
ما كنت أتمنى أن أذهب للبحث عن شواهد واستدلالات في قضية يستطيع العقل الإنساني المتزن أن يوازن فيها ليصل إلى صوت الحكمة، للأسف تعوّد الشارع الإسلامي المتدين أن ينتظر الفتوى حتى فيما كان فيه وضوحا، ولو أن لي من الأمر شيء لاكتفيت بتدريس هؤلاء جملة القواعد الفقهية والأصولية ومقاصد الشريعة ثم أدعهم ليتعاملوا مع مجريات الحياة التفصيلية بما فهموه من تلك القواعد والمقاصد، وهي قواعد أظنها من أجمل ما قدمه تراثنا الفقهي وإن كانت تفتقد التطبيق والإعمال، بفعل الخطاب المتشدد الذي زاد من قيودها وشروطها حتى حنطت.