تربينا على أن حضرموت كانت منبعا للفن ومركزا عظيما للثقافة يمن مونيتور/مجلة المدنية
تربينا على أن حضرموت كانت منبعا للفن ومركزا عظيما للثقافة. وفي جلسات الأهل دائما ما نستمع لحكاياهم التي يتفاخرون فيها بالماضي الجميل. وفقا لتلك الحكايات، كان المجتمع منفتح على خليط من الثقافة الأفريقية والآسيوية والغربية بين هجرة الحضارم لبقاع الأرض المختلفة منذ قديم الزمان ، و في فترة السلطنة القعيطية إبان الاستعمار البريطاني وقدوم الكثيرين من الجنسيات المختلفة للعيش في حضرموت.
دُهشت حين فتشت في ألبوم صور عائلتي القديم، حياة غير الحياة التي نعيشها اليوم وكأننا لسنا في اليمن التي كبرت وعرفته! زادت دهشتي حين أخبرني والدي عن أنواع الفنون التي كانت موجودة، فلا يمكن أن يصدق جيلنا الحالي أن في مدينة المكلا كان للمسرح حضور كبير منذ المسرحية الأولى التي شهدتها ساحة قصر السلطان ، في العام 1938م بعنوان المهلهل بن أبي ربيعة, ومسرحيات شكسبير وغيره من كبار المؤلفين والكتاب والتي كانت تقدم في المدرسة الوسطى في مدينة غيل باوزير على يد المدرسين السودانيين والحضارم الذين صنعوا مستوى عاليا من التعليم باللغة الإنجليزية. في حينها برزت أسماء مسرحية كبيرة تمثيلاً وإخراجاً. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن أول مسرحية عرضت في مدينة المكلا كانت من تأليف وإخراج السلطان نفسه. ولكن هذه العطاءات المسرحية توارت ولم يعد لهذا الفن الإنساني العميق أي وجود إلا على ما ظهر لماما وعلى استحياء.
في مكالمة مع الدكتور سعيد الجريري الرئيس السابق لفرع اتحاد أدباء وكتاب اليمن، حدثني بصوت يملأه الحنين والحزن: ” كانت في المكلا دور للسينما! “. سينما بن كوير والسينما الأهلية – التي أسست بنظام الأسهم – حيث كان للمواطنين دور في قيامها. وكان أول عرض تشهده هذه الدار في بداية عام 1966م. في وقتها كان رب الأسرة يحضر زوجته وأبناءه للسينما لمشاهدة الأفلام. ثم أضاف قائلا: كنا نملك حسا ووعيا بأهمية الفن كترفيه وكضرورة من ضروريات أي مجتمع سليم. وبعد أربعين عاماً أغلقت هاتين الدارين السينمائيتين لتصبح إحداهما صالة للأفراح والأخرى سوقا لبيع الخضار. ثم جاء إغلاق معهد محمد جمعة خان للفنون، بعد أحداث 1994م، ونهب كل أرشيفه، وأدواته الموسيقية، وكتبه ومراجعه الخاصة بالمنهج الذي يدرس للطلاب المنتسبين. و الجدير ذكره أن هذا المعهد كان الوحيد من نوعه بالمحافظة الذي عني بتخريج المبدعين في مجالات الفنون الإبداعية، موسيقياً، وتشكيلياً.
حرمنا، نحن جيل التسعينات، حتى من حصص التربية الفنية والموسيقية في المدارس – ربما كانت توجد في بعض المدارس حصص لتعليم الرسم البسيط، ولكن هذا فقط لا غير- ولدنا وقد بهتت معالم الفن تدريجيا. وتبدلت ثقافة الحياة والفرح لتكون محصورة في الموروث الشعبي وفي المناسبات والأعياد الوطنية فقط.
أصبح للفن محاربون وكارهون. و أصاب المبدعين المؤمنين بالفن وبأهميته الإحباط؛ فالغالبية من مثقفي المجتمع لجأوا إلى الصمت السلبي. للأسف لم يوجد أحد يواجه هذا الخطاب الكاره للحياة. انشغل المواطن بلقمة العيش وظروف الحياة القاسية التي فرضت على بلادنا ليصبح مجرد الحديث عن أهمية الفن رفاهية كبرى يرفضها الكثيرون.
ذكريات وشغف
وأنا في الصف السادس الابتدائي كنت أفتش في مكتبة بيتنا الصغيرة، انصدمت حين وجدت منهج تعليم الموسيقى في الصفوف الابتدائية قديما، وفيه كانوا يتعلمون كيفية قراءة النوتات الموسيقية،.كتاب صغير مبهج مليء بالألوان والخيال. كبرت وانا أتساءل لماذا لم نعد ندرس هذه المواد في المدارس؟ حتما كانت المدرسة ستصبح ممتعة أكثر. كنت أحمل شغفا كبيرا لتعلم العود وأقضي ساعات طوالا أمام التلفاز لمشاهدة العازفين ولكن كان هذا أقصى ما يمكنني فعله فلا يوجد معهد موسيقى مثلا يمكنني الانضمام له.
في حضرموت التي عرفت رواداً في الفن التشكيلي بمختلف أنواعه، نجد اليوم المبدعين في فن الخطوط والألوان لا يجدون حتى غرفة صغيرة منزوية بمركز ثقافي بالمكلا لممارسة شغفهم وعرض أعمالهم، وهو ما دفعهم لممارسة شغفهم في المنازل والبحث عن أي فرصة ولو بسيطة لعرضها للعالم. أحزن كثيرا عند مشاهدتي لأصدقائي من الرسامين والفنانين التشكيليين يصارعون الظروف وغلاء الأسعار لشراء الأدوات لممارسة هواياتهم بدون تقدير ولا دعم يذكر.
أعرف أيضا الكثير من الفتيات التي يملكن أصواتا ملائكية ولديهن شغف بالغناء وبالطرب والفن الجميل الراقي، ولكن يستحيل أن تتجرأ إحداهن وتعبر عن رغبتها في أن تصبح فنانة. حتى من يملكن دعما وتشجيعا من الأسرة يتم حصرهن في نطاق ضيق للغاية خوفا عليهن من أن يتلفظ أحدهم عليهن بكلمات سيئة تجرح سمعتهن. فالأمر بالنسبة للذكور أهون ولكنه بالتأكيد ليس سهلا على الاطلاق. لازال الأهالي ينظرون إلى الفن بوصفه مضيعة للوقت ويرون أن أبناءهم لن يحظوا بحياة كريمة إن هم انخرطوا في حرفة الفن.
و سواء كان السبب في هذا الركود تقصير الدولة في تقديم التسهيلات لانتعاش الفن، أو كان السبب راجعا إلى العادات والتقاليد الدخيلة والمتشددة التي ترفض الفن، أو كان عائدا إلى الوضع الاقتصادي المزري الذي جعل المواطن يدور حول ذاته وضرورات معيشته: أيا يكون السبب الوحيد أو كل هذه الأسباب مجتمعة، فإن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون الفن. إن الفن جزء أصيل وقديم من التكوين الوجودي البشري؛ ومن هنا ما نراه من ارهاصات لعودة روح الفن و مناشطه في حضرموت.
الفن راجع
ميمز هي مبادرة فنية شبابية في حضرموت تهدف إلى اكتشاف و تنمية قدرات الفنانين الشباب ومناصرة حقهم في التعبير عن فنهم لتمكينهم من تحقيق التغيير الإيجابي المنشود في أنفسهم و في مجتمعهم. ترمي المبادرة إلى خلق بيئة فنية متكاملة واقتصاد مبني على الفنون في حضرموت.
لربما تتساءلون ماذا يعني اسم ميمز؟
كنا مجموعة في تطبيق الواتساب الذي جمع 7 شباب من الجنسين الشغوفين والشغوفات بالفن وبالإدارة الثقافية. أخذت الفكرة قرابة الستة أشهر وتراوح النشاط الأولي التخطيطي ما بين قراءة لأفضل الممارسات الثقافية في العالم، ووضع الاستراتيجية والهيكل الإداري، و الاستماع لتسجيلات الحلقات البؤرية للبحث الميداني الذي قمنا به. بعد أن تم تجهيز كل شيء كان علينا أن نختار اسما وهوية نخاطب بها المجتمع، وبعد عدة مناقشات واقتراحات جاء اسم ” ميمز”.
ميمز اسم مركب من حرف ” الميم ” في اللغة العربية وحرف ” Z ” في اللغة الإنجليزية ليدل على الجمع. ميمز هي مجموعة ميمات تمثل ماهية عملنا وما نرغب في رؤيته في مجتمعنا فميم ” مسرح – مرسم – معهد – موسيقى – ميكروفون – مكان – مساحة ” وغيرها من الميمات.
تتمثل رؤية ميمز في قيادة حركة فنية تساهم في إحياء حضرموت كإحدى مراكز للإبداع والفن في المنطقة العربية. رأينا أن ذلك سيتم من خلال العمل على إحياء المشهد الفني والثقافي عبر المشاريع والنشاطات الفنية المختلفة التي تضم الدورات والمعارض الفنية، وعروض الأداء، والموسيقى، وعروض الأفلام، و المحاورات مع الفنانين، مع السعي إلى إقامة العديد من الفعاليات الفنية التي تناسب جميع فئات المجتمع.
البداية..
كانت انطلاقة ميمز الأولى في مشروع ” فننا سلام ” الذي قمنا فيه بتدريب 30 موهبة شابة من الجنسين في مختلف الفنون في كيفية استخدام فنهم لمناصرة قضايا مجتمعية. كان التحدي كبيرا. كنا نتساءل هل يوجد شباب شغوف وموهوب بالشكل الكافي ليقدموا أعمالا فنية كمخرجات للمشروع نفخر بعرضها أمام الجمهور؟ وكانت المفاجأة التي غرست فينا الأمل الكبير للاستمرار وإيمانا قويا أننا في الطريق الصحيح. كانت المخرجات 6 أعمال فنية ما بين مسرحية وأوبريت غنائي وفيلم قصير ورقص تعبيري. تناقش هذه الأعمال كلها قضايا مجتمعية تمس واقع الشباب. وقد تم العمل بإمكانيات بسيطة للغاية وأظهر ت المواهب المشاركة أحسن ما عندها.
في الحفل الختامي للمشروع امتلأت ساحة قصر السلطان و مسرح جمعية فناني حضرموت. أعاد المشهد المهيب تاريخ وعبق هذا المكان، بل إن بعض الحضور افترشوا الأرض بعد حجز كل الكراسي، فنحن فعلا لم نتوقع هذا العدد!
ولن أنسى كلمات أحد المشاركين – كوني كنت ضابطا للمشروع – وهو يقول لي: ” أرجوكم استمروا نحن نحتاجكم، أخيرا شعرت بالانتماء “. هذه الكلمات البسيطة تغلغلت إلى أعماق روحي تاركة شعورا عظيما بالمسؤولية والأمل للمستقبل.
انطلقت بعدها مسيرة ميمز بعدد من الفعاليات الفنية والدورات التدريبية المجانية المتنوعة، منها كتابة السيناريو، وتصميم الهويات البصرية، ودورة المصمم الحر، وأساسيات الموسيقى. وفي كل مرة نطلق استمارة تسجيل نتفاجأ بحجم الاقبال الكبير الذي يدخل معا البهجة إلى القلب والحزن على عدم مقدرتنا على قبول كل هذه الأعداد الشغوفة التي تبحث عن بصيص أمل في إعادة إنعاش الفنون الجميلة.
الصورة بإذن من مبادرة ميمز
لا أستطيع ان أصف مدى السعادة التي اجتاحت نفوسنا عند انطلاقة دورة أساسيات الموسيقى كأول حدث في تعليم الموسيقى منذ 25 سنة في مدينة المكلا . كانت الدورة بقيادة الفنان الشاب عازف العود هيثم الحضرمي وبالشراكة مع جمعية الفنانين في محافظة حضرموت. في أيام التدريب كانت تمتلئ ساحة القصر بالكثير من الشغوفين بالموسيقى يشاهدون المتدربين يداعبون آلاتهم في تناغم وارف. بعد الدورة التدريبية قام المتدربون بقيادة العازف هيثم الحضرمي بتقديم أول حفل موسيقي تشهده مدينة المكلا منذ عقود.
إننا في كل نشاط من أنشطتنا هذه نحاول إعادة الحياة لهذا المسرح العريق الذي لا يزال واقفا هنا بصمود ليذكرنا بأن ننفض غبار السنين العجاف عنه بعد أن انقطعت عنه الأضواء والنغمات والنصوص وأرواح المبدعين الذي درجوا في ساحته.
م .. مكان
ماذا يحتاج المرء لينجح؟ العزيمة، التحدي، الشغف، الاستمرار … وماذا بعد؟
يحتاج المبدع لمكان ومساحة آمنة تمكنه من ممارسة شغفه في بيئة مرحبة ومشجعة. وهذا ما يفتقده الكثيرون من ذوي المواهب. فمثلا الفرقة الراقصة Wax on Crew وهم مجموعة من راقصي الهيب هوب الذين شحذوا كل الهمم ليصلوا لقلوب الناس، يتدربون في ربوة في مكان بعيد فوق الجبل وفي ظروف قاسية. هم لا يكترثون حقا بالمكان نفسه، ولكن مثلما أخبرونا أن ما يبقيهم مستمرين هو رؤية الفرح والاستمتاع لدى الجمهور عند تقديمهم لعروضهم.
قبل مدة تعرض الشباب ومع مجموعة أخرى من الراقصين للاعتقال من قبل السلطة المحلية بسبب ممارستهم ” عادات دخيلة على المجتمع “. حسنا، هذه العبارة المطاطة غير المفهومة عرضت الشباب للإهانة والتجريح وفي حينها تم إجبارهم على توقيع تعهدات بعدم ممارسة رقص ” الهيب هوب” مره أخرى! قادت ميمز وقتها حملة مناصرة مجتمعية للمطالبة برد الاعتبار إلى الشباب ودعمهم للعودة لممارسة موهبتهم. لاقت الحملة رواجا كبيرا في المجتمع من كل الفئات وخصوصا الشباب ووصل الخبر للصحف العالمية. وبفضل كل هذا الدعم المجتمعي أصبح الشباب الآن يرقصون في حفلات السلطة المحلية الرسمية ويعرضون مواهبهم بدون خوف أو قلق.
الصورة بإذن من مبادرة ميمز
المبدعون في كل مكان هم النواة المدنية للمجتمعات، كل ما يحتاجونه هو بيئة آمنة تقبلهم وتضمن سلامتهم. نرسل في ميمز إشارات لكل المهتمين الحقيقين، والمبدعين المهمشين، بضرورة الوقوف بجدية لتفعيل هذه النوافذ الثقافية والفنية في حضرموت. نود أن نخلق مجتمعا متنوعا يحتضن الاختلاف ويحتفل به كقيمة من قيم الحياة. مرت سنة منذ الانطلاقة وكبرت ميمز بكل المنتمين لها الشغوفين المؤمنين بأهمية الفن والحراك الثقافي. كل ما أنجزناه في سنة ونصف كان وقوده الشغف والحب للتغيير، وممول بالطاقة الإيجابية. لقد كان جل عملنا بميزانيات شبه صفرية لدرجة أننا استخدمنا نفس اللافتة 15 مرة. ممولونا كانوا الفنانين الشباب الذين سئموا محاربتهم من قبل من يفترض أن يدعمهم. ممولونا أيضا كانوا الأشخاص والجهات الذين استشعروا قيمة الفن وحاجة الشباب لخلق متنفس ومصدر دخل مستدام. أما دعمنا الأكبر فكان تلك الجماهير الغفيرة التي حضرت فعالياتنا مرة بعد أخرى بشغف عارم.
..
بدأنا بفكرة حلم يراود معظم سكان مدينتنا: عودة الفن والحياة الطبيعية وعودة الفرح. ربما تكون كل هذه محاولات بسيطة، ولكنها محاولات لن يدرك أهميتها إلا من عاشها ورأى الشغف والحب في عيون االشباب ومدى التغيير الإيجابي الذي حصل لهم في فترة بسيطة. نحن مجتمع شغوف بالفن محب للحياة والسلام، ومليء بالقدرات والمواهب التي تحتاج فقط قليلا من التشجيع والدعم والصقل لتنطلق. لذلك ندعو، نحن في مبادرة ميمز، إلى تظافر جميع الجهود خصوصا من السلطة المحلية و أهل العلم والثقافة والمال إلى الاهتمام بالشباب بشكل حقيقي، وليس بطريقة السياسيين على شاشات التلفاز التي لا يتبع القول فيها الفعل. نطالب كذلك بعودة حصص التربية الفنية والموسيقية إلى صفوف المدارس الابتدائية. و ندعو بقوة إلى الحرص على حماية وضمان سلامة كل الشباب المبدعين من كل دواعي التحريض والكراهية لنعود لأساسنا السلمي والمبدع والمنتج. و إذا تم لنا ذلك فإننا سنشهد ميلاد جيل جديد عظيم يسير على خطى فنانين وشعراء مبدعين جاءوا من رحم هذه الأرض من أمثال بالفقيه و مرسال و المحضار وغيرهم.