كتابات خاصة

من أدب الهجرة

حسن عبدالوارث

                   لا بُدَّ من صنعا وإنْ طالَ السفر.

لا توجد مدينة أو قرية في اليمن لم يعرف أبناؤها الهجرة والاغتراب عن الوطن. وقصة اليمنيين مع الهجرة والغربة ليست حديثة العهد، بل هي ضاربة في عمق التاريخ، منذ أن «تفرّقتْ أيدي سبأ» إثر انهيار سدّ مأرب التاريخي الشهير، بحسب الرواية السائدة ، وبعد أن «كانت لهم جنّتان عن يمين وشمال».

غير أن المشوار التاريخي لهجرة اليمنيين عن بلادهم، وإنْ بدأ بحادث السدّ، فإنه لم يتوقف قط في مختلف العصور.. فلطالما طرأتْ أسباب قاهرة دَعَتْهم إلى الهجرة، وحتى من كان يعود ليستقر في وطنه بعد غربة، كثيراً ما استجدّت ظروف تضطره إلى الهجرة مرة أخرى، حتى لكأنَّ اليمني مهاجر مستمر أو مدمن هجرة. ومن أهم أسباب هجرة اليمني: الفقر المدقع الذي بلغ حيناً حدّ القحط والمجاعة، والقهر الاجتماعي والسياسي، وانعدام فرص العمل المناسبة لذوي المؤهلات والكفاءات المتميزة، والحروب والقلاقل والثارات، والرغبة في تحسين مستوى الحياة، وغيرها من الأسباب التي سطَّرت سِفْر الهجرة والاغتراب في التاريخ اليمني قديمه وحديثه.
انتشرت قوافل التغريبة اليمانية في شتى جهات الأرض، من جنوب وشرق آسيا، إلى شمال وشرق إفريقيا، إلى فارس وتركيا والقوقاز، وصولاً إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا، عدا البلاد العربية بالطبع.. بل إن اليمنيين هم من أدخلوا الدين الإسلامي إلى عديد من مناطق القارات القديمة الثلاث. وحيثما حلَّ المهاجرون اليمنيون حلَّت وانتشرت عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم وآدابهم وفنونهم وحِرَفهم التقليدية وغيرها من الملامح العتيقة والحميمة التي ارتبطت بالشخصية اليمنية أينما ترحّلت وحلّت في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد ظل اليماني طوال مشوار غربته يهفو إلى ربوع وطنه، توّاقاً إلى ملاقاة الأهل والعشيرة، مهما طالت سنوات الغربة ومهما تقلّبت به نوائب الدهر وتعددت ديار الهجرة.
ولو غابت عن الذاكرة الشعرية اليمنية آلاف النماذج في هذا النطاق الحميمي لموضوع الهجرة والغربة واللهفة للعودة إلى أحضان الوطن، فلن يغيب البتة هذا البيت الشعري الخالد لشاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح:
يوماً تغنَّى في منافينا القدر
                   لا بُدَّ من صنعا وإنْ طالَ السفر.
وقارئ الأدب اليمني -شعراً وسرداً ونصوصاً مختلفة- لا بدّ له من الوقوع في إسار الدهشة من تلك الوفرة اللافتة في موضوع الهجرة والاغتراب.. بل أن شعراء وقصّاصين وكُتّاباً يمنيين كباراً يكاد إنتاجهم الأدبي ينحصر في طابع الهجرة أو يغلب عليه هذا الطابع. ولعلّ الشاعر الكبير حسين أبو بكر المحضار والقاص والروائي القدير محمد أحمد عبد الولي هما أبرز من اصطبغت أعمالهما الأدبية بموضوع الهجرة والاغتراب، وقد عكست أبرز وأحفل ما في هذا المشهد من تطلُّعات وأحلام وآمال عريضة، ومن معاناة وانكسارات ومآسٍ جمّة، مما عرفها المغترب اليمني خلال مشوار غربته من مبتدئها إلى منتهاها.
دار الفَلَك دار
========
يُعد حسين المحضار من أكثر شعراء اليمن -إنْ لم يكن أكثرهم على الإطلاق- تجسيداً لحالة الاغتراب وأحوال المغتربين، وأفضل من صوّروا مشاهد الهجرة وأسبابها ومعاناتها منذ لحظة العزم على السفر، مروراً بمواكب الترحال، إلى محطة الوصول، وحتى معاناة المقام وشظف العيش ونكد الفراق للدار والأهل، بشكل موغل في التراجيديا. ومردُّ ذلك أن المحضار -عاش فعلاً لا شعراً فحسب- حياة الهجرة والاغتراب وذاق مرارتها، فقد كان كثير السفر وطويل الإقامة في المهجر لردحٍ من الزمن.
ولهذا السبب جاءت أشعاره نتاجاً لواقع غوصه في تفاصيل المشهد الاغترابي الذي صوّرته قصائده بأدق الاختلاجات النفسية والمعايشات المادية، فكان بحق خير من عبّر عن واقع الهجرة وحياة الغربة وتداعياتها على المغترب وعلى أهله بعيداً في الوطن.. عدا أن حضرموت -بلد المحضار- هي أكثر مناطق اليمن بل أقدمها ارتباطاً بالهجرة عبر التاريخ، ولأهلها علاقة قديمة ووطيدة بالاغتراب منذ قديم الزمان، لا سيما في أقصى أصقاع آسيا التي دخلوها فأدخلوا إليها بشارة الدعوة ومهارة التجارة ومنارة العلم.
قال المحضار: «فلوك اليمن حاملة من كلّ غالي/‏‏ وفي الخَنّ بُن يافعي وزبيب حالي/‏‏ يا نوخذه لا تقول المال مالي/‏‏ كل من سَكَن في اليمن له قِسْم في المال».
غير أن خير البلاد لم يكن يوماً مقسوماً بالقسطاس بين أهله، فكانت الكفاية نصيب جماعة قليلة فيما الشحّة نصيب الجماعة الأكبر، فكان مُقدّراً على الجماعة الأخيرة السعي في مناكب الأرض لنيل رزقها الذي عَدَمَته في بلدها:
جدّيت عزمي بقطع المشوار/‏‏ومن له حظ با يقطع مشاويره /‏‏ونعود لا قد طالت الأعمار/‏‏ والخارب يجود الله بتعميره/‏‏ راجين من خيره يساعدنا/‏‏ ويسعدنا كما الأخيار/‏‏ وعزمت السفر/‏‏ دار الفلك دار.
ومنذ الأيام الأولى لاستقراره في المهجر يكاد الشوق يمزق حنايا المهاجر، فيشرع مخاطباً كل عائد إلى الوطن، حتى الطير في السماء، مُحمّلاً إيّاه شوقه وحنينه إلى الأهل والدار: «يا طير يا ضاوي إلى عشّك/‏‏ قل لي متى بَضْوي إلى عشّي/‏‏ مَلّيت شُفْني هذي العيشه/‏‏ قلبي من الفُرْقة كما الريشة».
أو في مثل قوله، وهي من الأغاني الشهيرة في أوساط اليمنيين وبالأخص أهل المهجر:
«يا رايحين الوطن /‏‏ زِدْتُم بقلبي لهيب الشوق لأوطاني
حبي لأرض اليمن /‏‏ باقي ولن ينتسي ما دمت عربي يماني
يا مسقط الراس فيك العز والحب دام
ردُّوا على من سأل، بعد التحية سلام».
ويطول بالمغترب مقامه، ويزيد تأجُّج الشوق واشتعال الحنين في فؤاده، وقد عاش المحضار نفسه هذه المعاناة حين طال به المقام في الهند: «ما أحلى الهند حتى في لساني.. لكنّي نَكِد/‏‏ ما برتاح إلاّ في مكاني.. حيث أصلي و جِد/‏‏ كل ما غبت عنه يوم، له راسي ينود/‏‏ قل لي زمان الوصل متى با يعود». وهو يحذّر نفسه من استطابة العيش هناك، مُذكّراً إيّاها بالوطن والأهل: «حِسّك تغُرّك نيودلهي وتلهي/‏‏ عزّك بلادك بها تأمر وتنهي/‏‏ وإنْ ضاق بك عيش فيها.. صدر أهلك وسيع/‏‏ عقلي عليَّ طار واخشى ان قلبي يضيع».
وكان المغترب اليمني في الزمن القديم يبعث برسائله التي تبثّ سلامه وهيامه واختلاجات معاناته وتفاصيل مشاهداته عبر كل وسيلة، بما فيها تلك الوسائل المُتخيَّلة كالنسيم والريح والسحاب والطير، في حال افتقاده الرسول العائد إلى الوطن. ولكن بعد أن عرف العالم الطائرة صارت هذه الوسيلة السريعة – وما اقترن بها من خدمة البريد الجوي حينها- هي الرسول المضمون، عدا التمني بأن يذهب هو نفسه عبر الطائر الميمون – ولو لليلة في الشهر- ليطفئ لهيب الشوق ثم يعود أدراجه إلى أرض الرزق في مهجره: «شلّني يا بو جناحين إلى/‏‏ عند المحب ولو في الشهر ليلة/‏‏ با اشكي حالي ويشكي لي حاله/‏‏ الله يفك على كل محروم».
وبعد أن عرفت اليمن وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، صار يهفو إلى سماع أصوات الأحبة عبر هذه الوسيلة المُيسَّرة، والاستغناء عن الرسول في إيصال الرسائل مخافة أن يطّلع على أسرارهم الحميمة فيُفشيها: «لا أبعد الله داركم يا خِلّ عن داري/‏‏ لكنّ أحكام المُقدَّر والقضا جاري/‏‏ لا ما تُبى حدّ يفهم أسرارك وأسراري/‏‏ سيم الهوا ممدود من صيرا إلى سمعون/‏‏ لا عاد ترسل لي رسول.. كلِّمنا من التلفون».
وتستمر حال اليماني في غربته بين كَدٍّ ونَكَد، وبين شوق وحنين، وبين معاناة ومذلَّة، توّاقاً إلى اللحظة التي يستطيع فيها أن يُقرّر العودة إلى الوطن، وهذا القرار لن يتأتّى إلاَّ بدعوة لا يمكنه ردَّها البتة :
دعوة الأوطان
حين يدعيك ضبضب أو جبل شمسان
استجب في الآن
يا فؤادي المُعنَّى سيبك النسيان
حب في القلب شامخ /‏‏ للجبال الشوامخ
ذي تربّيت فيها وانقضى لك بها شأن /‏‏ حان الوفا حان .
يموتون غرباء
========
يُخيِّم موضوع الهجرة والاغتراب على متن النص السردي لمحمد عبد الولي بصورة مكثفة وحميمية على نحوٍ لافت. وفي أضعف نموذج لهذه الحالة تجد طيفاً من هذا الملمح الموضوعي ينسلُّ بين ثنايا النص أو خيطاً عالقاً في إحدى زواياه. وباختصار شديد فإن المهاجر اليمني هو البطل الأكثر حضوراً في قصصه ورواياته.
لقد كرَّس عبد الولي أدبه لهذه القضية على نحوٍ بالغ التكثيف. كيف لا وهو مهاجر ابن مهاجر. هاجر أبوه من قريته في ريف محافظة تعز  في ثلاثينات القرن الماضي إلى بلاد الحبشة، حيث تزوّج فتاة من ذلك البلد أنجبت له عدداً من البنين والبنات بينهم محمد الذي ولد في مدينة دبرهان يوم 12 نوفمبر 1939. وقد عُرِف محمد عبد الولي بلقب «الكِلِّيس» وتعني المُولَّد أو هجين النسب (من أب يمني وأم حبشية). وعانى محمد في أطوار نشأته الأولى من هذه الازدواجية في الهوية، وقد وظَّف تفاصيل وأبعاد هذه المعاناة في عدد من أعماله السردية بإسقاطها على بعض شخوصه وأبطاله.
في معظم قصصه ورواياته يعكس عبد الولي حياة ومعاناة ومصير المغترب اليمني. وقد تكون الحبشة من أكثر النماذج تكثيفاً وكشفاً لحقيقة ما يعيشه المغترب اليمني من مكابدات اجتماعية واقتصادية وثقافية، تُطوِّح به بين زوايا شتى من تناقض الانتماء والهوية وشتات المقام والمراوغة المؤلمة بين الذات والواقع. ويُبدع عبد الولي في عكسه لهذا المشهد التراجيدي للمغترب اليمني في ذلك المجتمع الذي صار المهاجرون اليمنيون جزءاً حميماً من نسيجه الاجتماعي والتجاري والثقافي وحتى السياسي لاحقاً.
وتكاد روايته «يموتون غرباء» تكون المانفيستو الأدبي لموضوع الهجرة والاغتراب، ليس في نطاق أدب محمد عبد الولي فحسب، بل في الأدب اليمني إجمالاً، والمجال السردي بوجه خاص. وهي بدءاً من العنوان، تكشف للقارئ بانوراما التغريبة اليمانية كمأساة مُجسَّدة، في النص والواقع على السواء، فهم يعيشون ويستمرون في العيش على منوال حلزوني أو في دائرة مفرغة وعلى هامش الحياة تماماً، ثم فجأة يُصدمون بأن العمر قد انقضى دون جدوى: بلا وطن ولا مستقر دائم، وفي غالب الأحوال بلا أسرة ولا ثروة.. ثم يموتون -كما عاشوا- ليسوا مغتربين فحسب، بل وغرباء بكل ما في المفردة من دلالة ناضحة بالمرارة.
وقد تراوحت مواقف محمد عبد الولي من الهجرة أو الغربة – والتي أنطقَ بها شخوصه – بين الرؤية الثورية الرافضة والحالة العاطفية الراثية أو المُبرِّرة. فهو يرفض -من حيث المبدأ- أن يترك اليمني بلده تحت أيّ ظرف مُفترَض، وذلك يتجلّى من خلال هذا الحوار المقتضب في أحد فصول روايته «يموتون غرباء»: (كان الممرض يعرف «عبده» وراح يقص للدكتور كل ما يعرفه عنه. وكان الدكتور إيطالياً يعبد الحبشيات. وعندما سمع ما قصَّه عليه الممرض قال بغرابة:
– لا أتصوَّر مطلقاً أن يعيش هذا الرجل في ذلك الجُحْر!.. كيف يُمكنه ذلك؟.. يا إلهي، إنها حياة كالجحيم.
– ولكن ما الذي يستطيعون أن يصنعوه سوى هذا.. لقد تركوا أرضهم، بلادهم، وأهلهم وراء لقمة العيش.. إنهم يموتون جرياً وراء اللقمة قبل كل شيء.. هذا ما يفكرون فيه.
– اللقمة، إنني أوافقك.. ولكن.. أمِنْ أجلها يجب أن نرمي كل أسلحتنا في الهواء؟.. تقول تركوا أرضهم. لماذا؟.. لأنهم لم يستطيعوا أن يقفوا ببسالة ضد أوضاعهم القذرة. شعب يهاجر من أرضه، شعب خائن لتلك الأرض.
-الظلم يجعل الخيانة شيئاً بسيطاً…
– ولكنه لا يُبرِّر الفرار).
إنها التغريبة اليمانية جسَّدها محمد عبد الولي في قصصه ورواياته كما لم يُجسّدها أديب يمني من قبله ومن بعده. وقد تسنّى له ذلك، وبتلك القدرة الموضوعية والفنية على السواء، لأنه عاشها وعاشها أهله الأقربون، وقد شاءت الأقدار أن يموت عبد الولي غريباً لا يُعرف له مثوى، فقد راح ضحية انفجار مُدبَّر لطائرة تُقِل مجموعة من الدبلوماسيين اليمنيين -هو أحدهم- فوق الأجواء اليمنية يوم 30 أبريل 1973.
——————————————————
“*” ورقة مقدمة الى ندوة (الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية)
في 7 ديسمبر الجاري، في صنعاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى