البلد لا تحتاج لزعيم او قائد مفدى، تهتز لخطابه القاعات تصفيقا، البلد تحتاج لحكمة واحترام للعقول ومواطنة محترمة، وتحتاج لقاعات فيها نضج نخب من التكنوقراط، متخصصين في مجالات عدة لا يستمعون فقط ويصفقون، بل يناقشون ويحاورون ويدلون دلوهم بوعي ومهنية، يقولون لا للخطاء، ونعم للصواب، نخب من الصعب أن يُضحك عليهم، تبريرا وتدليسا بتصفيق حار وهتافات النفاق الاشد حرارة.
نعم كنا بأمس الحاجة بالأمس للمصارحة والمكاشفة، وصار أمس ماضي، واليوم هو الحاضر، وتلك هي سنة التغيير فهل تغيرنا لنكن أبناء اليوم، مهتمين بالغد المشرق، أم لا نزال غارقين في قمامات ذلك الماضي، نبحث في تراكماته عن مبررات فشلنا، ما امسنا اليوم للمصارحة والمكاشفة وتقيم ذواتنا وتجاربنا المخذولة، وسنظل بحاجها لها في مسار تحولنا المستقبلي، حاجة لتجسير الهوة بين الفرقاء، وبين الأجيال، بين السياسيين والمفكرين، مصارحة ومكاشفة تصفي النفوس من المنازعات الجانبية، وتدعم التنسيق نحو مشروع وطني جامع.
أزمتنا اليوم هي ازمة الاجماع للتوافق على مشروع امة، والكل يعرف تلك الحشود التي تجمعت لتصنع كيان جامع ،وهي تنفر اليوم منه بعد ان فقدت الامل في اجماعه، المشاريع الكبيرة هي التي تجمع الناس في وطن يستوعب كل ابنائه بكل أطيافهم واعراقهم وتوجهاتهم, وتظل المشاريع الصغيرة أنانية، تنحصر مناطقيا أو طائفيا أو أيدلوجيا، ولا كرامة لامة تفتقد لأجماع توافقي على وطن يحقق الكرامة والعزة والاحترام للجميع دون استثناء.
لا ضير في مشروع انفصال يحقق اهداف انسانية عظيمة مرتكزاتها عدالة اجتماعية و مواطنة وحرية، يمثل تطلعات وامال الناس، الضير عندما يتحول هذا المشروع إلى وهم للترويج لأحلام، يرسخ المناطقية والطائفية، ويفرغ القضية الأساسية من عدالتها الاجتماعية وقيمها الانسانية العظيمة، عندما يتحول لمجرد صراع على حدود جغرافيا، وتصنيف عرقي سلالي، وتحطيم بنية الدولة وأدوات تنميتها السياسية والثقافية، لهدف تصفية حسابات قديمة، واستدعاء كل خصومات الماضي وانتقاماته، فتتضاعف حجم تراكمات الظلم والقهر والتعسف، مما يجعل من تلك الجغرافيا مجرد ساحة للتناحر والانتهاكات، وبيئة منفرة للاستثمار والاقتصاد والآخر المختلف، فنبرر عجزنا بضعف الموارد والامكانيات، ونحن السبب في كل ذلك، نحن من سمحنا لشياطين الحرب والتسلط والهيمنة أن تلعب بأريحية، وتختار منا ادواتها للعبث والنهب والسطو والبسط، وسقوط مدوي للأخلاق والقيم، و كان الأمر لا يعنينا.
نحتاج إذا لقاعة فيها تقييم ومكاشفة ومصارحة للحالة المزرية التي وصلنا اليها، لنعرف أين الخلل؟هل هي سياسات ومنظومة إدارة، هل هي عقلية وثقافة وفكر، هل هو ارث وتاريخ يعيد تكرار نفسه، أم هو غباء وتخلف وجهل لا يستوعب دروس وعبر الحياة، أم هو نفاق ودجل وكذب وضحك على الناس أخذلهم.
المصارحة والمكاشفة ليست وسيلة للتبرير ولا للتنصل، بل هي وعي يتكون من تجربة مريرة فرضت قناعات، قناعات مبنية على الحقائق، بعد أن استنفذت كل وسائل الترويج لأوهام مدعومة بالكذب والتدليس والتزوير والنفاق، ولم تعد تلك البضائع الفاسدة لها سوق في ظل تطور الوعي الاجتماعي، وعي الناس اليوم يبحث عن حقائق الامور، فصار يسخر من تكرار المبررات الغبية، صار يسخر من الاتهامات والشيطنة، واستجرار عفن الماضي واستدعاء خصوماته، ودفع الناس للقتال ونحر بعض، صار يسخر من الاستثمار القذر لكل ذلك فسادا وافسادا، و الناس تموت وتنهك اجساد هزيلة ونفوس مقهورة، وجماعة تثخن، وتكتنز الأموال والاستثمارات في كل بقاع الأرض ما عدا وطنها أن كان لا يزال وطنها، شبعت حراما وتشبعت انتهاكات، وصارت مرعوبة من دولة نظام وقانون وعدالة وحرية، خوفا من الطلب القانوني والانساني والأخلاقي والمسألة.