ثاروا على الاحتلال الأجنبي، وعلى الحكم الاِمامي. ووجدوا قصور العنجريز والسلاطين و”سيوف الاسلام” في متناول أيديهم -ومعها خزائن وسياط- فإذا بالبريق يسطع في عيونهم، فتغشى عن كل الحقائق. وحينها فقط تندلع الحرائق. يغدو الصراع على السلطة هو الاستراتيجيا.. وماعداه مجرد تكتيك وتباتيك!
كان اليمنيون -وما زالوا، وسيظلون- يأتون إلى الدنيا فقراء، ثم يثورون على أسباب فقرهم. وحين يستلمون السلطة، يكتشفون أنهم لازالوا فقراء. ولكن هذه المرة لم يكن فقر المادة، انما فقر الروح. فإذا بهم ينقلبون من فقراء إلى حقراء، بعد أن يصيروا عبيداً للسلطة!
ثاروا على الاحتلال الأجنبي، وعلى الحكم الاِمامي. ووجدوا قصور العنجريز والسلاطين و”سيوف الاسلام” في متناول أيديهم -ومعها خزائن وسياط- فإذا بالبريق يسطع في عيونهم، فتغشى عن كل الحقائق. وحينها فقط تندلع الحرائق. يغدو الصراع على السلطة هو الاستراتيجيا.. وماعداه مجرد تكتيك وتباتيك!
إن قراءة أمينة -ولو سريعة- للتاريخ السياسي اليمني الحديث والمعاصر ستُفضي بنا إلى إدراك حقيقة مؤلمة من دون أدنى شك: إن الكفاح ضد الأجنبي والكهنوت لم ينل غير قدر ضئيل من متن هذا التاريخ -يكاد اليوم ينسحب إلى الهامش- فيما يتغطَّى معظم هذا المتن برماد الحروب والكروب الناتجة عن فكرة الاستحواذ والاقصاء: الاستحواذ المطلق على السلطة، والاقصاء الغشوم لكل الخصوم.. وهي الفكرة الجرثومية الفتاكة التي راح ضحيتها أضعاف أضعاف شهداء وقتلى النضال ضد عثمان وهينز ويحيى وأحمد!
…
في صنعاء..
أستولى مناضلون -بل رموز ثوريون- على ثروات خاصة بالأُسرة الاِمامية المندحرة: أموال وجنابي ومصوغات ذهبية، عدا البيوت والأراضي والمزارع والبهائم والعبيد، وغيرها من الممتلكات. وقد انتقل بعضهم من الفقر المُدقع إلى الغنى الفاحش في زمن قياسي، بلهُ في سويعات معدودات، كما الحال في غير مثال!
ومن لم ينل حصَّته من متروكات الأئمة، نالها من خزائن الدولة الناشئة اثر الثورة، أو نالها لاحقاً من ميزانية “اللجنة الخاصة” أيَّاها.. حتى غدا من المؤلم أن ترى أحد مناضلي سبتمبر الأقحاح وهو مُعدَم، فتقول في نفسك راثياً: ليته نال منها بعض وطر!
وبرغم ذلك، ظلت أغلبية القيادة الثورية -على عِلاَّتها الأخرى- محتفظة بقدر وافر من عِفَّة اليد وطهارة الضمير، في عهدَيْ السلال والارياني، ثم بصورة أنصع في عهد الحمدي. ولم يزدهر الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي وتتقيَّح القيادة وتسقط الفكرة الثورية، الاَّ لاحقاً في عهد صالح، كمُفارقة فادحة السخرية بين الاِسم والمُسمَّى!
وفي عدن…
ظل النقاء الثوري والشقاء الطبقي عنواناً لافتاً لمنظومة القيادة التي حكمت البلاد والعباد بالنار والحديد، وبالجيوب النظيفة والذمم الشريفة. وقد رحل قحطان وعبداللطيف وسالمين وعبدالفتاح وليس في أرصدتهم غير كتب حركة القوميين العرب أو مجلدات الثلاثة البررة والرابع القابع تحت الشجرة.
ولم نسمع عن قصص الشغل من تحت الطاولات أيَّاها الاَّ في الحقبة الثمانينية من القرن المنصرم. وللأمانة، لم تكن تلك القصص لصيقة بجماعة دون أخرى، فمثلما طالت المقاولات المشبوهة محمد علي وآخرين، فقد أصابت صفقات السلاح النتنة صالح مصلح وآخرين. ولأول مرة، تتردَّد الأنباء سيئة السمعة عن بيوت بعض القيادات وهي المنطقة التي ظلت سابقاً بعيدة تماماً عن الشبهات!
وأستمر الحال وتدهور إلى أسوأ مآل حتى جاء الجمَّال يوم 22 مايو 1990 فأخذ الجمل بما حمل وعلَّم الفاسد الاشتراكي الغشيم ما لم يعلم من فنون الفساد من طراز متجدِّد!
…
لم تندلع حرب صيف 1994 إلاَّ وقد نمت طبقة سياسية فاسدة في قيادة الحزب الاشتراكي..
وإثر اخماد نيران هذه الحرب، وذات مساء شتائي قارس، كان عدد محدود من القيادة الجديدة في هذا الحزب يناقشون -في جلسة مقيل محدودة النطاق- المصير الغامض للأموال التي كانت في حوزة القيادة السابقة للحزب والتي أختفت مع هروب تلك القيادة إلى الخارج عشية سقوط عدن في 7 / 7 تحت سنابك كوكتيل مسلح وحاقد.
كنتُ موجوداً حينها -في الزمان والمكان والحدث- استمع إلى ما يدور من غريب الحديث، وأنا غارق في بحر الدهشة، غير مُصدِّق بأن أميننا العام المناضل العريق والصمصوم العتيد -ومعه نفر من قادتنا الأشاوس- قد أستولوا على ملايين الدولارات في غمضة عين!
وكنتُ أتخيَّل تلك الكُتيِّبات التي تحتوي برنامج الحزب والنظام الداخلي وحلقات التثقيف الحزبي وهي تتراقص قُبالتي كأنَّها رُزَم من البنكنوت الأخضر اللمَّاع!.. لم أكن لأُصدِّق قط.. ولكن الحقيقة كانت ساطعة في حدقات العيون وفي الوثائق والمستندات التي أمامي!
رحمة الله تغشاك أيها الرفيق الفذ علي صالح عُباد.. ما أشرفك وأنظفك.
…
سيقول قائل: والحوثة؟.. لماذا لم تُشِر اليهم؟.. هل هم استثناء مما تقول؟
وأردُّ عليه: أولاً، انني أتحدث عن أهل الثورة.. أو -بالأصح- من كانوا أهل الثورة! .. وثانياً، ما يزال هؤلاء في غيِّهم يعمهون، فانتظروا سيرة الاكتمال.. فانْ شئتَ فافهم، وانْ لم تشأ فسلاماً.