قد أسهمت في هذه الأبحاث عقول المفكرين في معظم الحضارات على مر العصور، إلا أن الحضارة الإسلامية بصفة خاصة قد تميزت بمنظومتها الفكرية التي تجعل الوحي الإلهي وخلافة الإنسان في الأرض منطلقين أساسيين لأية وحدة تنظيرية تستهدف البحث عن الحقيقة، وتحصيل سعادتي الدنيا والآخرة على حد سواء.
مبحث القيم أو “الإكسيولوجيا” من المباحث الأساسية في الفلسفة الذي يختص بدراسة القيم المطلقة (الحق ، الخير، الجمال). اما البحث في هذه القيم فمن شان العلوم المعيارية الثلاث: علم المنطق، فلسفة الاخلاق، فلسفة الجمال. يبحث علم المنطق في الحق ويتكفل بوضع القواعد التي تعصم مراعاتها العقل من الوقوع في الخطأ. أما فلسفة الأخلاق فتتناول الخير وتسعى لتوضح الغاية التي يتوخاها الناس من أعمالهم من خلال تبيان معنى الخير والشر، وما ينبغي أن تكون عليه المعاملة بين الناس. أما البحث في معنى الجمال وشروطه وما ينبغي ان يكون عليه الشيء الجميل فهو من أبحاث فلسفة الجمال. وهذه القيم الثلاث، الحق والخير والجمال، انما ترد إليها الأحكام التقديرية من جهة انها غايات قصوى تطلب لذاتها وليست وسائل لتحقيق غايات، فضلا عن انه منها تتفرع القيم الاخرى.
وقد أسهمت في هذه الأبحاث عقول المفكرين في معظم الحضارات على مر العصور، إلا أن الحضارة الإسلامية بصفة خاصة قد تميزت بمنظومتها الفكرية التي تجعل الوحي الإلهي وخلافة الإنسان في الأرض منطلقين أساسيين لأية وحدة تنظيرية تستهدف البحث عن الحقيقة، وتحصيل سعادتي الدنيا والآخرة على حد سواء.
الحق والخير والجمال، هذه الكلمات الثلاث تمثل “القيم” التي طالما سعى لها الإنسان، حينما تصفو إنسانيته وتبرز فيه “الفطرة” بعيدًا عن الغبش الذي قد يحجبها حجبًا كاملاً أحيانًا، وجزئيًّا أحيانًا أخرى. هذه القيم الأساسية الثلاث تقابلها لدى الإنسان ملكات أساسية ثلاث، هي العقل، والإرادة، والإحساس، وربما كان لكل ملكة ارتباط أكثر بقيمة من تلك القيم، فملكة العقل هي الأقرب في إدراك قيمة الحق، وملكة الإرادة هي الأقرب في إدراك قيمة الخير، وملكة الإحساس هي الأقرب في إدراك قيمة الجمال.
وسيكون الحق هو غذاء العقل، والخير هو غذاء الإرادة، والجمال هو غذاء المشاعر والأحاسيس.
قيمة الحق بحث في الأشياء على مستواها النظري، وتأمل الشيء نظرياً هو معرفة علاقته بغيره، وهي إما علاقة صفة وموصوف أو علاقة سبب ومسبب. فالغرض من تأمل الشيء نظريا هو معرفة علاقته بغيره وهذه العلاقة اما اتصاف واما سببية.
وقيمة الخير بحث في الأشياء على المستوى العملي، وتأمل الشيء عملياً هو معرفة نسبة ضرره ونفعه ولذته وألمه، وكل ذلك أحكام عملية بحسب آثاره علينا من حيث اللذة والألم. ولا يخلو شيء في هذا الوجود عن فوائد ومضار ولذلك فإنه نافع وضار في نفس الوقت، ولكن نافع من جهة وضار من جهة أخرى.. والغرض من تأمل الشيء عمليا هو أن نعرف حكمه من حيث النفع والضر حتى اذا عرفنا هذا طلبناه وسعينا لتحصيل فوائده إن كان نافعا أو دفعناه وهربنا منه إن كان ضارا .. وهذا لا يكون إلا بالعمل وهذا بدوره لا يكون إلا بمعرفة كيفية العمل.
وقيمة الجمال بحث في الأشياء على المستوى الجمالي، وتأمل الشيء جمالياً هو معرفة مقدار الجمال أو القبح الذي فيه، وكل شيء في هذا الوجود له إلينا نسبة جمالية فلابد أولا من معرفة حكم الشيء من ناحية الجمال، فإذا عرفنا هذه النسبة تذوقناه جماليًا، واللذة هي تابعة لتذوق الجمال بالضرورة.
أما عن علاقة هذه القيم ببعضها فأتخيلها كما في هذا المثال:
تلتقط ألواح حواسنا ومشاعرنا أشعة الجمال فتخزنها إلى بطارية العقل كطاقة تولد النور الذي يضيء لنا طريق الليل المظلم، فالطريق مرة مشاهدا (نهارا) ومرة مظلما (ليلا)، وفي طريق الليل نكتشف ما لا نكتشفه في طريق النهار .. وكلما قطعنا مسافة أكبر في طريق البحث عن الحقيقة كانت طاقتنا أقوى لأننا نضيف إليها طاقة المشي بجوار طاقة الشمس..
بمعنى آخر:
كلما تزودت الحواس بالجمال اتجه العقل إلى فعل الخير، وكلما تكرر فعل الخير كان استلهام الحق أسهل، ثم تعود التغذية معاكسة.. فاستلهام الحق يشجع العقل لفعل الخير، وفعل الخير يفتح مسامات الحواس لاستقبال الجمال بشكل أكبر..
أما نظرية المعرفة “الإبستمولوجيا” فتعتبر إحدى المحاور الأساسية للدراسات الفلسفية الحديثة لأنها تهتم بطبيعة ومجال المعرفة. وهي باختصار تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي المعرفة؟ كيف يمكن امتلاك المعرفة؟ وما هو مدى المعرفة بموضوع ما؟ يركز البحث والنقاش في هذا المجال على تحليل طبيعة المعرفة ومدى ارتباطها بمفاهيم الحقيقة والإيمان ونظرية المعرفة كانت ومازالت موضع اهتمام المفكرين والباحثين الراغبين في الوصول إلى حقيقة السعادة الدنيوية.
هذه الخلاصة القصيرة لن تجيب عن تلك الأسئلة، فمجال بحثها مقام آخر، وإنما أردت فقط تنبيه القارئ المسلم لأهمية هذه المباحث الفلسفية، لأنها صارت تشغل العقل المعاصر أكثر من غيرها من القضايا، خاصة بعد أن شغل العقل المسلم نفسه بهامش الهامش على حساب المتن.
الوسائل التي ينطلق بها الفلاسفة والباحثون في بحثهم عن المُطلق والنسبي هي وسيلتا التفكير العقلي والتأمل القلبي فقط، -كما ذكرت سابقا- وجاء الدين بوسيلةٍ ثالثة عبر الرسل ، وهذه الوسيلة هي الوحي، فكيف يتفاعل الوحي مع العقل والقلب ليصل إلى معرفة المطلق؟
ولعل أقرب شبه بين عمل تلك الوسائل الثلاث في البحث عن المعرفة هو ما صورته آية النور، فلطالما شدتني هذه الآية فوقفت أمامها متأملا، هل النور هو ذلك المطلق الكامل الذي يبحث عنه الإنسان بما توفر له من الأدوات؟
هل العقل هو ذاك المصباح، والقلب هو تلك الزجاجة، والوحي هو ذاك الزيت المبارك؟
فيتكامل النور حين يشتعل فتيل المصباح (العقل) الذي يتغذى من الزيت (المعرفة عموما والوحي خصوصاً) وتحميه الزجاجة (القلب) من الهواء الذي قد يطفئه، وتوزع الزجاجة ضوءه بشكل متناسق في المكان..
أما إذا لم يكن هناك زيت فإن الفتيل لن يشتعل، ولو كان هناك زيت واشتعل الفتيل وكانت الزجاجة مكسورة فإنه سينطفئ، ولو كانت الزجاجة سليمة ولكنها قاتمة فإنها ستحبس النور ولن نستفيد من اشتعال الفتيل.