كتابات خاصة

عفوا نوفمبر.. استعمرتنا الأفكار

أحمد ناصر حميدان

وبدلا من أن تنهض البلد وهي تملك كل مقومات النهضة، وخاصة عدن، ومينائها الحر الذي كان في المرتبة الثانية  بين موانئ العالم، شهدنا تدهور اقتصادي وانغلاق سياسي، وتجرع فكر وايدلوجيا، في الذكرى 52 للاستقلال لجنوبنا اليمني الحبيب، وحلم وتطلعات الأجيال المتعاقبة التي عاشت مخاض الكفاح المسلح الذي مخض هذا الاستقلال، والنشأة في بيئة  ثورية تحررية، وخوض كفاح مسلح ضد المستعمر الغاشم.

وما لتلك التربية والنشأة في عدن من تأصيل ثقافي وسياسي في التكوين الاجتماعي، وشهود مخاض مولد منتديات وجمعيات ثقافية ونقابات عمالية وحقوقية، ثم شهود مخاض ميلاد أحزاب سياسية عريقة، وخوض أول تجربة ديمقراطية في المنطقة والاقليم، في عدن السباقة في كل جديد ونهضوي، حيث ترعرع الفرد في وسط اجتماعي بنسيج متنوع من الأعراق والثقافات والطوائف، شكلت وعي أصيل عصي على المساومة في المبادئ والقيم والمواقف السياسية.
كتلة اجتماعية واعية، كان رافداً مهما للاستقلال والحرية، تنشد ميلاد الجمهورية الفتية، يحذوها الأمل لمستقبل زاهر، ووطن حر أبي جدير بالمنافسة السياسية والاقتصادية في المنطقة والاقليم والعالم، أبدعت شعرا وغناء وصحافة وتنويرا، ورددت بقوة انشودة برع يا استعمار برع من أرض الأحرار برع، عاشت زهو النصر وأمل تحقيق الامنيات، والأحلام الطوباوية، والمدينة الفاضلة.
صدمتها الحرب الأهلية،  صددمة شديدة موجعة، ذاقت منها مرارة التنازع الفكري والايدلوجي العنيف، الذي انتقل بعدوى صراع عربي واقليمي، حرب دمرت أحلام وتطلعات تلك الكتلة الرائعة من النسيج الثقافي والسياسي، استهدفتها وفككت أوصالها باتهامات وتصنيف وتعنيف، هُزمت أفكار ورؤى  وطوائف وأيدولوجيات، أصيلة بأصالة مجتمعنا، وحكم عليها بالإقصاء والتهميش والاجتثاث في حياة سياسية كلها وسوسة وتوجس ومراقبة ورعب وخوف من الرأي الآخر والاختلاف والتنوع، وانفتاح عقل ومنطق تلك الكتلة على العالم سياسيا واقتصاديا.
وبدلا من أن تنهض البلد وهي تملك كل مقومات النهضة، وخاصة عدن، ومينائها الحر الذي كان في المرتبة الثانية  بين موانئ العالم، شهدنا تدهور اقتصادي وانغلاق سياسي، وتجرع فكر وايدلوجيا، مع قبضة أمنية تمكنت من إقامة دولة بوليسية مخابراتية حصينة، لها قانونها ودستورها النافذ، لخدمة ايدلوجيا وفكر لا غير، يامن كل من تقبل هذا الواقع واندمج مع تلك الافكار وتكييف ايدلوجيا معها، دوان أن يامن الآخر المختلف فكرا وايدلوجيا وعقيدة، ليشكلا معا ثرا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، فكانت البندقية هي وسيلة الفرض والحسم.
هذا الواقع دفع برحيل الكثير من الكتلة الرائعة فهاجرت العقول والكوادر المهنية، هاجر التنوع والاختلاف، بل طرد البعض من أرضه وبلده بقرار سياسي، وتم تصفيت الآخر، ومع قرار التامين العام للملكية الخاصة هاجرت ما تبقى من البيوت التجارية والرأس المال الأجنبي والمحلي، وتحولت البلد لقطاع عام، وسلطة هي الحاكم والتاجر والمالك، وعلى المواطن الطاعة ليسلم ويعيش في أمان، وينتظر الدولة الفاضلة الموعودة التي سيقطف فيها التفاح من النافذة.
ومن يعارض ذلك فهو عميل ومرتزق وراسمالي عفن وبرجوازي قذر.
ويبقى السؤال بعد 52 عاما من الاستقلال، هل تحقق فعلا الاستقلال؟ وهل تحققت الامنيات؟ والمقصود هنا الاستقلال الفكري والثقافي والروحي، وامنيات الحرية والمواطنة والعدالة والدولة الضامنة لهما.
والحقيقة أن الاستعمار اعاد بحالة اخرى، عاد ليستعمر العقول فكريا وايدلوجيا، باستقطاب أحد قطبي النزاع الدولي، وارتهن البلد لذلك الفكر والايدلوجيا والقطب، بتنازع أشد وجعا وتدمير.
ويثار أيضا سؤالا آخر، لماذا نهضت مستعمرات سابقة لبريطانية في المنطقة والعالم بعد تحررها ونحن لم ننهض بعد؟ وهل لذلك ارتباط بالارتهان لأحد قطبي النزاع الدولي؟ وهل قدرنا أن نكون في القطب الأضعف والمستهدف، ليبقى حالنا من سيئ  لاسوأ.
وهل لحماسنا الذي فاق حدود قدراتنا وامكانياتنا سببا فيما نحن فيه؟
حماس لم يحسب لنتائجه المراهقين السياسيين، واعتقدوا أنه يكفي أن يكونوا أثرياء بمبادئهم وقيمهم، ولا يحتاجون لاختصاصات ومهارات وتكنوقراط، وانفتاح فكري وثقافي واقتصادي مع الجميع، لا يحتاجون للشركات الأجنبية والمحلية التي كانت قائمة والبيوت التجارية، بل طغت عليهم فكرة المؤامرة وعودة المستعمر من تلك النافذة.
كنا بحاجة بقاء مؤسسات مهمه بإدارة خبرات اقتصادية لفترة من الزمن، منضبطة بقانون الدولة الفتية، وباستحقاق مفروض على المستعمر وفق وثيقة الاستقلال إن وجدت، كنا بحاجة في التأني بقرارات كانت كارثية، كمثال لا حصر لو بقى مستشفى الملكة بمسماه ودعم وتشغيل أجنبي لفترة استقرار مطلوبة، لكان حاله افضل بكثير، ولو بقت مصافي عدن تدار بخبرات دولية ولفترة ايضا، وكنا بحاجة لبقاء الشركات الاجنبية والمحلية كتوني بس وقهوجي وشل والملاحة وأحواض السفن، واستراتيجية ادارة الميناء، وشركات وطنية كهائل سعيد وأولاد ثابت وكثيرا هي البيوت التجارية والصناعية، ولو لفترة نهوض محددة.
سمعنا اعتذارا متأخرا  بعد أن دمرت البنية التحتية للدولة، بعد 13 يناير المشئوم، وتلاه 94م الكارثة، واعتراف القيادة حينها بانهم كانوا شباب طائش أي مراهقين، لكن بعد خراب مالطا.
ولا يزال ورثة ذلك النظام يسيرون على ذلك الخراب، ونهج أسلافهم بعقول مراهقة في التسليم لأجندات اقليمية وهي الأسواء، ليكونوا أداتها في حروب عبثية ضد الآخر، مستبسلين في بناء دولة الفكر الواحد والنظام الشمولي الذي يرفض الآخر ويحكم البلد بالبندقية، لنكن مستعمرين من قبل تزاوج المال بالسلاح.
وعفوا نوفمبر لم نستقل بعد لا نزال مأسورين لخيباتنا ونكساتنا وشخصيات ومكونات اعتبارية مصابة بالمراهقة السياسية والطيش والتهور، وإلى الهاوية.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى