الراجح أنَّ «عبهلة» قال تلك العبارة قبل دخوله صنعاء، و«خبان» المذكورة هي «خب – الجوف» مقر إقامته، ونقطة انطلاق حركته، وأنَّ «معاذ» لم يستلمها؛ لأنَّه لو كان فعل، لتعامل مع مضمونها بجدية، ولما ذهب وآلاف المسلمين إلى الحج، وبإسقاطنا الزماني والمكاني للحادثة لتأكد لنا ذلك بسهولة ويسر.
لم يكن مُعاذ بن جبل أثناء قيام ثورة مذحج الثانية مُتواجداً في اليمن؛ بل كان ومعه أبو موسى الأشعري وآلاف من المُسلمين اليمنيين في مكة المُكرمة، مُشاركين للرسول «ص» شعائر حجته الأولى والأخيرة «ذو الحجة 10هـ»، وهي من عُرفت بـ «حجة الوداع».
وفي مُخالفة لسياق تنقلات عبهلة بن كعب – زعيم تلك الثورة – والتي بدأها من الجوف، ثم نجران، ثم صنعاء محطته الأخيرة، والتي استغرقت «25» يوماً، ذكر عدد من الرواة أنَّه أرسل من «كهف خبان» رسولاً إلى الجند حيث يُقيم «معاذ»، وخاطبه وأصحابه قائلاً: «أيها المُتوردون أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه».
والراجح أنَّ «عبهلة» قال تلك العبارة قبل دخوله صنعاء، و«خبان» المذكورة هي «خب – الجوف» مقر إقامته، ونقطة انطلاق حركته، وأنَّ «معاذ» لم يستلمها؛ لأنَّه لو كان فعل، لتعامل مع مضمونها بجدية، ولما ذهب وآلاف المسلمين إلى الحج، وبإسقاطنا الزماني والمكاني للحادثة لتأكد لنا ذلك بسهولة ويسر.
ولو تأملنا العبارة ومضمونها، لتبدى لنا أنَّ رُسل رسول الله «ص» إلى اليمن هم المقصودين، لا «الهمدانيين» الذين احتلوا الجوف كما أشار «الفرح»، وأنَّ أصل الاعتراض على الزكاة لا على الأرض، وهو البُعد الآخر لتلك الثورة، والأقل أهمية، وسبق للدكتور حمود العودي أن علق قائلاً: «فإن اليمنيين لاحظوا بأنَّ خراج بلادهم كله من الزكوات وغيرها تُنقل بالكامل الى المدينة، ولم يبق منها شيء لفقراء اليمن كما تقضي بذلك مبادئ الإسلام، ولا لمنافعها العامة».
صحيح أنَّ رسول «ص» ربط أقاليم اليمن مَركزياً بالمدينةِ، وهو خيار ضرورة فرضته جغرافية ذلك الزمان السياسية، وما هو مُؤكد أنَّ ولاته أشاعوا العدل، وتم إعفاء كثير من المُسلمين اليمنيين من دفع الزكاة لفقرهم، ليتجسد ذلك التسامح أكثر في وثيقة الصلح التي وُقعت مع غير المسلمين من نصارى نجران، ولوعُدنا إلى جذور الاعتراض، لوجدنا أنَّ أبطاله هم بعض مشايخ الإقطاع، من جرَّدوا من سلطاتهم الجبائية.
وبالعودة إلى الهدف الرئيسي لثورة مذحج، فقد قام «عبهلة» فور دخوله صنعاء بالتنكيل بالفُرس، وخاطبهم: «إنَّ الأرض أرضي وأرض آبائي، فاخرجوا منها، والحقوا بأرضكم، وأنتم آمنون شهراً على أن تعطوني السلاح»، ولم يكد ينقضي ذلك الشهر، حتى انحرف بتلك الثورة عن هدفها، واستبد بالأمر، وأقصى معاونيه، وقرَّب «الأبناء»، وصاهرهم بالزواج من «آزاد» أرملة شُهر بن باذان، وابنة عم فيروز الديلمي.
ولأنَّه كاهن مذحج الأكبر، وله معرفة بالسحر والشعوذة، نجح في التأثير على من حوله، وادعى النبوة؛ الأمر الذي جعل غالبية أنصاره – وخاصة المسلمين – ينفرون منه، غادر مُعظمهم صنعاء، فيما ظل الصحابيان ثات بن ذي جرة، وقيس بن مكشوح في ذات المدينة، غاضبان مُترصدان، لينجح الأخير – كما سيأتي – في طي صفحته وإلى الأبد.
كان عمرو بن معدي كرب من جُملة المُغادرين، ألح على ابن أخته قيس بالمغادرة، وحين رفض الأخير طلبه، خاطبه:
أمرتُك يوم ذي صنعاء
أمراً بيِّناً رَشَدُه
رسول الله تأتيه
وأمر الحزم تتَّعدُه
فكنت كذي الخُمَيّر
غرّه مما به وتِدُه
لم تتجاوز سيطرة «عبهلة» صنعاء وضواحيها، وحين وصل رسول الله «ص» خبر ادعائه النبوة، أرسل إليه – كما أفاد المؤرخ البلاذري – جرير البجلي يدعوه للإسلام، فأبى، فما كان منه – صلى عليه وسلم – إلا أن أرسل إلى صنعاء وبر بن يُحنِّس في مهمة سرية «صفر 11هـ»، وضحها ذات المؤرخ بقوله: «بعث النبي إلى قيس بن مكشوح لقتال الأسود العنسي، واستمالة الأبناء.. فاستمال قيس فيروز، ثم أتيا داذويه فأسلم».
ولمَّا كان «الأبناء» هم القوة الضاربة في صنعاء؛ عمل رسول الله «ص» على استمالتهم، ونجح «قيس»، و«وبر» في ذلك، وأسلم عدد منهم، ولا نستطيع الجزم هل كان إسلامهم عن قناعة، أم خوفاً ومجاراة للوضع، خاصة ودولتهم في فارس كانت تعيش وضعاً صعباً، وكان – كما أفاد «الرزي» – أول الداخلين في الدين الجديد أم سعيد بنت برزخ زوجة داذويه، وهكذا حلَّت العصبية الدينية محل العصبية القبلية، وتوافق الجميع كما أشار «ابن كثير»: «على الفتك بالأسود، وتعاقدوا عليه».
لم يكتف رسول الله «ص» بذلك؛ بل بعث في الوقت نفسه لمسلمي اليمن، وحثهم على التوجه إلى صنعاء، وبالفعل تحركوا، ووصلوا إلى مشارف ذات المدينة، وجاءت كتبهم «قيس»، و«فيروز»، فطلب منهم الأول بـ «أن لا يحركوا شيئاً حتى نُبرم أمرنا»، وبالفعل أبرموا أمرهم في ليل، وساعدتهم «آزاد» في الدخول إلى مخدع زوجها، وعلق «ابن خلدون» على ذلك: «دخل قيس ومعه فيروز ففتل عنقه، ثم ذبحه»، وقال «ابن كثير»: «ألقى قيس رأس الأسود العنسي، ونادى: أشهد أنَّ محمداً رسول الله، وإنَّ عبهلة كذاب، فانهزم أصحابه، وظهر الإسلام وأهله».
صحيح أنَّ فيروز الديلمي وداذويه الأصطخري سهلا لـ «قيس» تلك المهمة، إلا أنَّ عملية القتل اضطلع بها الأخير؛ كونه فارس قبيلته المقدام، ورجل حربها الهُمام، والأكثر أهمية أنَّه خلد تلك الواقعة في كثيرٍ من أشعاره، حيث قال:
وقال رسول الله: سيروا لقتله
على خير موعودٍ وأسعد أسعد
فسرنا إليه في فوارس بهمة
على خير أمرٍ من وصاة محمد
وفي دامغته التي دافع بها عن اليمن ومجدها الحضاري، خلد الحسن الهمداني تلك الواقعة، وقال:
وزار الأسود العنسي قيس
بجمعٍ من غطيف مُردفينا
فعمم رأسه بذباب سيفٍ
فطار القُحف يسمعه حنينا
رُغم أنَّه لم يكن برجل حرب، عمد «فيروز» على سرقة ذلك الإنجاز، والقول بأنَّه وحده من قتل «عبهلة»، وتابعه في ذلك كثير من المؤرخين، مُستدلين بأنَّ «جبريل» نقل لرسول الله تلك الواقعة، وأنَّه – صلى الله عليه وسلم – قال لأصحابه: «قُتل العنسي البارحة»، وأنَّه أضاف: «قتله رجل مُبارك من أهل بيت مُباركين. قيل من هو؟ قال: قتله فيروز، فاز فيروز»، وإذا كان الجزء الأول من الحديث مقبول، فإن الجزء الأخير غير مقبول البتة، ولم تكن – كما أفاد المؤرخ الفرح – سوى عبارة مُلفقة، وضعها القصاص سيف التميمي.
وزاد
وزاد بعض هؤلاء المُؤرخين بأن استدلوا بشعر ركيك لـ «فيروز»، جاء فيه:
لما قتلنا بالدبادى العرجلة
أبرمت أمري وقتلت عبهلة
تعمق الخلاف – بفعل ذلك – بين «فيروز» و«قيس»؛ الأمر الذي جعل الأخير يقول مُفنداً ومُوضحاً:
زعم ابن حمراء القصاص بأنَّه
قتل ابن كعب نائماً نشوانا
كلا وذي البيت الذي حجت له
شعث المفارق تمسح الأركانا
لأنا الذي نهبته فقتلته
ولقد تكبد قائما يقظانا
وهكذا تحققت للمسلمين السيطرة النهائية على صنعاء، وقد اختلف المؤرخون حول من تولى حكمها، هناك من قال أنَّ «قيس» و«فيروز» تنازعا على ذلك، وهناك من قال أنَّ رسول الله أسند أمرها إلى أبان بن سعيد بن العاص، وقيل وبر بن يُحنِّس، وما هو مُؤكد أنَّه – صلى الله عليه وسلم – توفي بعد ذلك، وأنَّ خليفته أبوبكر الصديق جعل فيروز الديلمي على ذات المدينة «رجب 11هـ»، الأمر الذي أثار حفيظة اليمنيين، فأعلنوها ثورة، وهي من عُرفت بثورة مذحج الثالثة
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.