يتداول كثير من أولئك الشباب عبارات ترسخ مفهوما صحيحا، ولكن عند تنزيل تلك العبارة أو تطبيقها على حادثة بعينها يغفلون الفروق التي تجعل تلك العبارة غير منطبقة تماما على الحادثة، حتى وإن تشابهت في بعض زواياها، ظاهرة أتابعها منذ سبع سنوات، أحاول نقدها وتقويمها بين حين وآخر.. شباب يطرحون كثيرا من المسلمات على طاولة الشك، بل ويتجه بعضهم إلى إدخالها مباشرة ضمن دائرة الرفض دون تأن ودراسة، تلك الظاهرة التي جعلتني أوزع وقتي ما بين نقد المسلمات -بما أراه طريقة منهجية- حيناً، وبين نقد اللاعلمية في التعامل النقدي مع تلك المسلمات حيناً آخر.. لتلك الظاهرة أسباب كثيرة لعل أهمها ما وصل له أولئك الشباب من إحباط ويأس بعد أن ثاروا في الربيع العربي وقدموا من التضحيات ما ظنوه كافيا لإخراج هذه الشعوب من العبودية والاستبداد والذل والإهانة والانحطاط، ولكنهم فوجئوا بالانتكاسة في منتصف الطريق!! ومن الأسباب كذلك ما يسرته التكنولوجيا الحديثة من تداول لأسئلة كانت مخفية تحت الطاولة لا يجرؤ أحد الحديث عنها، ثم خرجت دفعة واحدة بعد وجدت لها مناخا مناسبا، سواء كان خروجها بشكل طبيعي أم بشكل منظم تديره جهات تدفع بهذا الاتجاه في الوطن العربي، بحسن ظن أحيانا وبسوء ضمير أحيانا أخرى.
وبرغم صحية الظاهرة في مجملها لأنها تعيد البناء للمسلمات على أساس متين وتستبعد من دائرة المسلمات ما دخل دون استحقاق، وتخفف وتيرة التعصب إثر ذلك، فما كان قويا ثابتا رسخته الأسئلة المثارة حوله، وما كان هشاً ركيكاً هزته رياح الأسئلة واقتلعت جذوره، وفي هذا من الفوائد ما يخفف عن العقل المسلم كثير من الأوهام والخرافات التي أعاقته عن النهوض، إلا إن تلك الظاهرة لم يصاحبها نقد مستمر لها لتقويمها، ولم يكن الشباب بالوعي الكافي للتعامل معها، فاستخدمها بعض الشباب بشكل خاطئ وسطحي مرات كثيرة، فحيث كان ينبغي أن يشك ويتساءل ويسأل ويبحث ويقرأ ويتأمل دون ضغوط خارجية أو داخلية قد تقيد حريته في الاختيار، اتجه مباشرة إلى الرفض! والرفض اختيار وحكم متسرع غير مبني على وعي وبرهان، ويدل على سطحية ونقص معرفي وضعف في المنهج العلمي عند صاحبه فتكون خطواته غير صائبة ومن ثم اختياره أيضا.
يتداول كثير من أولئك الشباب عبارات ترسخ مفهوما صحيحا، ولكن عند تنزيل تلك العبارة أو تطبيقها على حادثة بعينها يغفلون الفروق التي تجعل تلك العبارة غير منطبقة تماما على الحادثة، حتى وإن تشابهت في بعض زواياها، ربما هو التسرع وربما الوقوع تحت ضغط الجمهور، فربما أراد الشاب إظهار مدى اتساقه مع مبادئه، وربما أراد أن يظهر بمظهر العقلاني دون امتلاك أدوات العقلانية، وخاصة أن “مظهر العقلانية” يمكن أيضا أن يتحول إلى موضة حين يأخذ الشاب بقشورها ويترك روحها، فربما حققت له تلك الموضة بعض إثبات وجود، وهو وجود سيكتشف بعد وعي أنه كان زائفا، وأنه أخره عن الوصول للحقيقة درجة أو بضع درجات.
ربما يظن أولئك الشباب في رفضهم المستمر لكل مقدس أن باستطاعتهم العيش دون أي إيمان بمقدس، وهذه فكرة لم تتحقق في الواقع في أي زمن، فكل شعوب العالم لها مقدسات ومسلمات، حتى أكثر أولئك الشعوب تقدما، وإنما تختلف مسمياتها فقط، فمطلقات الكنيسة في القرون الوسطى بأوروبا، تحولت لمطلقات تحت شعار الدولة القومية الحديثة، وصارت الدولة بحد ذاتها مطلقا يتحكم بكل تفاصيل الحياة، وصار العلم تلك الخرقة من القماش رمزا وطنيا للبلد يحترمه ويقدسه كل أبناء البلد، وصار النشيد الوطني شعارا وطنيا يجتمع في ترديده وتبجيله كل أبناء الوطن، وصارت المتاحف بما تحويها من تحف قديمة ورسومات ومعادن ومخطوطات ثروات قومية وتراث إنساني يحافظ عليها الإنسان الحديث درجة التقديس، ويضج العالم إن سرقت إحدى رسوماته القديمة.
تخيلوا معي لو أننا قلنا لهذه الشعوب يا لضيق عقولكم، أتجعلون من خرقة قماش وكلمات ملحنة وأحجار ومعادن وورق هذه القيمة الكبيرة، وتنفقون عليها ملايين الدولارات لحفظها وحمايتها، وصيانتها، ويضج إعلامكم أن فقدت قطعة واحدة متاحفها، فكيف لو دمر أو نهب كل ما في المتحف؟ توقفوا معي أولا عند تسمية تلك الآثار بالأحجار، هل هي أحجار وفقط أم أن اسمها آثار، وهكذا في بقية المسميات..
إن إحدى وظائف المسلمات هو الاجتماع.. فالاجتماع الإنساني على مدار التاريخ قام حول مسلمات ما، ثم صارت تلك المسلمات هي هوية ذلك المجتمع.
يجب أن يظل العقل حارسا للإيمان حتى لا تتكاثر الأوهام والخرافات التي يجعل منها الفرد أصناما يعبدها ويحارب من أجلها، كما يجب على الإيمان أن يكون حارسا للعقل حتى لا يصل الفرد إلى العدمية والسلبية التي تجعل حياته بلا معنى، ويجعل كل القيم سائلة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.