المشاقر في تعز: الزينة الفواحة وطقوس الحياة والموت
لا يمكن أن تواصل سيرك للدخول إلى المدينة القديمة دون أن يشدَك منظر ألوان زهور المشاقر، أو تشدك الرائحة الزكيةُ التي تجعلك تلتفت إلى زاوية ترتص فيها أعداد كبيرة من المشاقر، سوف يجعلك المنظر تتوقف لتبتاع أضمومه منها، فهي ليست غالية السعر؛ فلا تتجاوز حزمة المشقر 300 ريال يمني، كما يقول عزالدين محمد بائع المشاقر .
يمن مونيتور/ مجلة المدنية: محمد أمين الشرعبي
يقف عز الدين منذ الصباح الباكر فى مدخل الباب الكبير بمدينة تعز (جنوب غربي) اليمن، يلملم أضاميم المشاقر ويرشها بالماء كي تبقى دائمة الاخضرار و عبقة الرائحة.
منذ عشرين سنة، كما يقول، امتهن بيع المشاقر في نفس المكان، وأصبح مقصد كل من يريد شراءها؛ فحين تكون وجهتك الدخول إلى المدينة القديمة بتعز، بأسواقها ومساجدها وحوانيتها القديمة- و أنت داخل من الباب الكبير تحديداً، والذي يعتبر الباب الثاني بعد باب موسى، لأقدم سور تاريخي في تعز- فإن ما يشد نظرك هو زاوية بيع “المشاقر”، وهو المكان الذي يبيع فيه عزالدين محمد جميع أنواع المشاقر .
لا يمكن أن تواصل سيرك للدخول إلى المدينة القديمة دون أن يشدَك منظر ألوان زهور المشاقر، أو تشدك الرائحة الزكيةُ التي تجعلك تلتفت إلى زاوية ترتص فيها أعداد كبيرة من المشاقر، سوف يجعلك المنظر تتوقف لتبتاع أضمومه منها، فهي ليست غالية السعر؛ فلا تتجاوز حزمة المشقر 300 ريال يمني، كما يقول عزالدين محمد بائع المشاقر .
اختيار المكان موفق وجميل، كأن عز الدين محمد يريد أن يكون افتتاح الدخول إلى عبق تراث و تاريخ المدينة القديمة، عبق وعطر المشاقر. و في اليمن عامة لهذه النباتات استخدامات جمالية عابرة للجنسين و استخدمات طقوسية ترتبط بمسائل الوجود الكبرى كالولادة والموت.
سبب التسمية
المشقر هو عبارة عن مجموعة من الورود والنباتات العطرية، يتم تجميعها “من كل نوع غصن”، ويتم ربطها بشكل حزمة صغيرة، تسمى مشقر، مفرد مشاقر، ومفرد كل نبتة عطرية من هذه المشاقر “شُقرة” بضم الشين، واسم المكان الذي تزرع فيه هذه النباتات العطرية و هو “المشقار”.
وقد تكون تسمية المشاقر مشتقة من المشقار، وهو المكان الذي تزرع فيه هذه النباتات، فالشاقر تعني الظاهر المطل حسب وفقا للهجة الغالبة في ريف مدينة تعز . ويكون المشقار في إحدى زوايا أسطح البيوت الريفية، في مكان “شاقر “، أي مطل على الفناء الخارجي للمنزل. وهذا المكان ظاهر يشاهَدُ من خارج المنزل، وكأنه بستان معلق في السماء . و يكون “المشقار” على شكل كومة من التراب يتم نقله من تربة أرض جيدة، يسور هذا التراب بأحجار صغيرة في مساحة لا تزيد عن مترين في متر، على أكثر تقدير. في معاجم الأعشاب “شقر” هو شقائق النعمان . غير أن الشقر أو الحبق أو الريحان، كما يظهر في المعجمات العربية، يختلف عن زهر شقائق النعمان الذي ذكر كثيرا في الشعر العربي القديم.
يتزين بالمشاقر المرأة أو الرجل، ويكون ظاهراً بشكل واضح؛ فالمرأة تضعه مغروزاً في مقرمتها “رداء تضعه المرأة الريفية على الرأس من فوق الأذن”، وتطل واجهة المشاقر وزهوره على خدها، أما الرجل فيضعه بشكل عمودي مغروزاً في “الدسمال” العمامة الملتوية بشكل دائري على رأسه، وهي جزء من لبسه التقليدي القديم، فتظهر أضمومة المشاقر على رأسه ظاهرة للعيان.
المشقار في يوميات النساء
تقول الستينية أم منصور الحميري التي تزرع المشاقر التي تستعملها على سطح بيتها إن وضع المشقار في أسطح المنازل مهم للمرأة، وذلك كي يكون قريباً من مزاولة أعمالها المنزلية الداخلية، و حتى يسهل عليها الاعتناء به من حيث سقيه أو تشذيبه، مشيرة إلى أن المرأة الريفية تحتاج في كل وجبة من الوجبات الغذائية الثلاث إلى استخدام بعض هذه النباتات في تجهيز بعض أصناف المائدة الشعبية الريفية. وتتابع أم منصور قائلة “عمل المشقار من البداية هو من اختصاص المرأة، فهي التي تقوم بجمع ونقل كل ما يستلزم عمل المشقار كنقل التراب، ووضع السماد الخاص من فضلات المواشي فيه. وهذا يساعد في نمو نباتات المشاقر بشكل جيد وسريع”.
وترى “ام منصور” أن عملية القطف الصحيح ضرورية لبقاء و ايناع الأغصان؛ فالغصن الذي يقطف بشكل خاطئ لا يكون موضوعه صالحا لنمو غصن آخر بدلاً عنه. وقطف غصن من الريحان يختلف عن التور مثلاً أو النرجس، من حيث اختيار المسافة التى يتم قطفها من طول الغصن. وتضيف: أن المشاقر تحتاج بشكل يومي للسقي المنظم، فنمو هذه المشاقر حسب تعبيرها يحتاج للسقي قبل طلوع الشمس، فيما يحظر سقيها في الظهيرة، وهذا ماتلتزم به المرأة الريفية. ويأتي سقي المشاقر صباح كل يوم في أولى اهتمامات المرأة الريفية، كما أن من أساسيات الاعتناء بالمشقار النبش بين الحين والآخر في تربة المشقار لتزويدها بالسماد .
مكونات المشقار
ويتكون المشقار من عدد من النباتات، منها العطرية التزيينية فقط، ومنها التي تستخدم طبياً، بينما تدخل نوعية أخرى ضمن مكونات طهي بعض المأكولات الشعبية.
و النباتات المكونة للمشقار مجتعمة تصل إلى عشر نباتات. وهي البياض والريحان والفيجل والتور والرند والخوعة والنرجس والأزَّاب والعطرية والنعناع. والأخير لا يدخل ضمن مكونات المشقر الذي تتزين به المرأة أو الرجل، بل يستخدم في الأكل، أو الشاي، كما يستخدم كوصفة طبية، لإيقاف الاسهالات عند الأطفال.
أما الريحان أو “الحمحم”، فيعتبر ملك المشاقر إن جاز لنا التعبير، وله رائحة مميزة زكية، وهو الأكبر من حيث زهرته البنفسجية اللون، وأوراقه كبيرة، كما أن له استخدامات متعددة، فهو يستخدم في الكثير من الأكلات الشعبية وحتى في الوصفات الطبية.
ويعتبر الريحان أساس تكوين المشقر، وتعد رائحته هوية للمشقر.. والريحان نوعان أبيض وبنفسجي، وتتشابه أشكال أوراق النوعين، لكن زهرتهما مختلفتان، وتبدأ زهرة الريحان بيضاء ثم تتحول إلى خضراء، والآخر تبدأ زهرته بيضاء ثم تتحول إلى اللون الأقرب للبنفسجي .
وثالث نبتة مكونة للمشقر هو الفيجل، وتقول ام منصور الحميري إن أوراقه صغيرة خضراء، وله رائحة جذابة، هذا بالإضافة إلى كونه عطرياً وأحد مكونات مشقر الزينة، ويستخدم في مكونات الخبز الشعبي المصنوع من الذرة الشامية والذرة السمراء، و يستخدم أيضاً في أهم وجبة شعبية يمنية وهي اللحوح، “وهو عبارة عن خبز من الذرة الشامية يطهى بشكل شفاف ويصنع منه وجبة الشفوت الشعبية، التي يحرص كل اليمنيين أن تكون ضمن وجبة الإفطار في رمضان”.
نبتة مايسمى بالتور ذات الأوراق الصغيرة والزهرة الصفراء، هي أيضاً من مكونات المشقر، لكن ليس لها استخدامات في طهي أي أكله شعبية، ولا كوصفة طبية، بل هي نبتة عطرية فقط، ولها رائحة زكية، كما يوضح لنا عز الدين محمد بائع المشاقر .
ويرى عزالدين أن نبتة “الخوعة” أيضاً من أهم مكونات المشقر، وهي نبتة عطرية بامتياز، لها رائحة فواحة، أوراقها متوسطة ذات لون ثلجي، وزهرتها صفراء صغيرة الحجم، استخداماتها كثيرة في الأكل، وتدخل ضمن أكثر من أكله شعبية، وتستخدم كوصفة طبية لعلاج التهابات الكلى، حيث يتم وضع أوراقها في ماء دافئ، ويشربها المريض، كما اعتاد أغلب أبناء الريف في تعز .
ويضيف عز الدين محمد أن “الأزاب ” نبتة عطرية ذات رائحة قوية وزكية، أوراقها دائرية صغيرة، ولونها أقرب إلى اللون الرمادي، وزهرتها خضراء، وهي من مكونات المشقر الأساسية، وليس لها استخدامات في طهي أي أكله شعبية، إنما تستخدم كوصفة طبية لإزالة الدهون من الجسم، حيث تُغلى أوراقها وتشرب مع الماء مثل القهوة .
أما بعض نباتات المشقار، كما يقول عزالدين، لا ينتهي نمو غصنها بزهرة مثل البياض، وهو نبتة ذات أوراق صغيرة جداً، لونها أقرب إلى الأبيض، ولها رائحة زكية، و بالإضافة إلى أنها جزء من مكونات المشقر كزينة، تستخدم لعلاج وجع الأذن.
وهناك أيضا الكاذي، ويدخل ضمن مكونات المشقر، والكاذي شجرة كبيرة الحجم تزرع في الحقول، وتباع في بعض الأسواق الشعبية، وتشتهر زراعته في محافظة لحج جنوبا وفي المناطق التهامية في محافظة الحديدة غرب اليمن. ويصف عز الدين بعض نباتات المشقر بأنها ثانوية في تكوين المشقر؛ فهي نباتات ليس لها رائحة ولا أي استخدام آخر، فقط لها زهرة حمراء أو بيضاء مثل الرند أو برتقالية كالنرجس.
وقد تختلف نوعية النباتات العطرية “المشاقر” من منطقة ريفية إلى أخرى في تعز، من حيث التسمية والنوع، لكن تبقى العشر النباتات هي المكونات الأساسية للمشقار في البيت الريفي بتعز، والتي ذكرناها سابقاً.
المشقار في هندام النساء و الرجال
يأتي اهتمام المرأة الريفية بهذه النباتات، كما تقول أم منصور الحميري، لأنها تدخل ضمن هندامها في المناسبات، مضيفة “تتفاخر النساء الريفيات بمشاقرهن من حيث كثرة النباتات التى تحويها، وأيضاً من حيث ديمومة اخضرارها”.
ومع قرب أي مناسبة اجتماعية كالأعراس تحرص المرأة الريفية قبل موعد المناسبة بأسبوع أن لا تقطف أي نبتة من المشقار حتى يأتي يوم العرس والمشاقر كبيرة مكتملة، فتستطيع أن تقطف هذه المشاقر، وتظهر بمشقر كبير يكمل هندامها في المناسبة الفرائحية، كي يكون ظهورها مميزاً . كما تستخدم المرأة الريفية بعض النباتات العطرية المكونة للمشقر ذات الرائحة الفواحة، كالفيجل الذي يدرج ضمن خصلات شعرها كي تمنحها رائحة جذابة.
وتؤكد أم منصور الحميري أن المناسبات التى تحرص المرأة الريفية أن تكون مشقرة فيها هي الأعراس ومناسبات الزيارات للأهل، خاصة في الأعياد، ومناسبة قدوم مولود لإحداهن، حيث تقوم النساء بعد أسبوع من الولادة بزيارة “الوالدة” محملات بالهدايا ومهندمات بالمشاقر.
المشقر الذي يتزين به الرجل لا يحوي نفس مكونات المشقر الذي تتزين به المرأة في الريف، فمكونات مشقر الرجل تقتصر على الريحان والبياض والأزاب والخوعة، ولا تضاف له نباتات كالكاذي و زهرات الرند والتور . واستخدامات الرجل للمشقر تدخل ضمن هندامه في الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة، وفي الموالد الدينية.
المشقر في عادات الريفي وتقاليده
وهناك عادات وتقاليد ارتبطت بالمشقر كما يوضح نائف الوافي وهو إعلامي مهتم بالتراث وتحديداً المشاقر. يقول : “قديماً كانت الشابة لا تقبل من أي شخص المشقر؛ لأن أخذ المشقر يعتبر قبولاً بالزواج، وكأنه حجز لها، فتصبح زوجته المستقبلية “.
استخدام المرأة للمشاقر لا يأتي للزينة فقط. تقول أم منصور: “بعض النساء يستخدمن المشاقر في المنزل لاعتقادهم بفاعليته في طرد الأرواح الشريرة، بعد تجفيفها وإحراقها داخل المنزل، بينما تعتبر أخريات البياض “أحد مكونات المشقر” حامياً من الإصابة بالعين”.
وتشير أم منصور الحميري إلى أن استخدام المشاقر لايقتصر على المناسبات الفرائحية فحسب، بل يستخدم في المآتم، ويوزع في بعض مناطق ريف تعز في العزاء وبالذات الريحان، الذي يرتبط في أذهان أبناء ريف تعز بالصلاة على النبي، كما يوضع على جنازة الميت حين يتم نقله إلى المقبرة .
و في البيت الريفي توضع أضاميم المشاقر بشكل حزمة صغيرة في إناء صغير فيه ماء، وتوضع في أكثر من مكان في البيت، حين يكون هناك ضيف قادم، وتظل هذه المشاقر الموضوعة في الأواني المملؤة بالماء طرية، تفوح منها رائحة زكية لأكثر من ثلاثة أيام، كما توضع في نوافذ المساجد خاصة يوم الجمعة، حيث اعتاد عليه أغلب أبناء الريف .
سواء كان يوما عاديا في المنزل أو صلاة جمعة أو عرس أو مأتم، تبقى المشاقر من أهم عناصر الموروث الشعبي في ريف تعز. جيل بعد جيل، يستمر أهل ريف تعز نساء و رجال في زراعة المشاقر و استخدامها في الطقوس، الزينة، الطبخ، العلاج والهندام لتبقى المشاقر شاهدة عابرة للزمن على يوميات الحياة في تعز.