بيت بَوُسْ حكايةٌ يمنيّةٌ لحصنٍ تاريخي يندثر

أحمد الأغبري

كانت هذا القرية تطلُ على حقول زراعية اختفى معظمها بفعل الزحف العمراني لمدينة صنعاء؛ وهو الزحف الذي اتصل، من خلاله، عددٌ من قرى المحيط بنطاق العاصمة. بل إن هذه القرية باتت تطلُ على حي سكني حديث من أحياء العاصمة صار يحمل اسمها بيت بَوُسْ.

في جنوب غرب مدينة صنعاء تنتصب بيوت قرية بيت بَوُسْ الأثرية بكبرياء أسطوري على سطح تلٍ صخري منحوت بعناية على مرتفع جبلي، وقد احتشدتْ تلك البيوت وتناغمتْ وانسجمتْ في شكل تبدو معه كتاجٍ يعلو هامة هذا المرتفع والموقع الحصين، وهو نمط قد يكون تقليدياً في ظاهره، لكنه في جوهره عبقري التكوين والتشكيل والتصميم. ذلك ما يوحي به المنظر وأنتَ ما زلتْ تقفْ أسفل ما تبقى من واديها في طريقك نحو هذه القرية/الحصن والتي تروي حكاية تاريخٍ غابر للحصون والقلاع في حياة اليمنيين القدامى.
كانت هذا القرية تطلُ على حقول زراعية اختفى معظمها بفعل الزحف العمراني لمدينة صنعاء؛ وهو الزحف الذي اتصل، من خلاله، عددٌ من قرى المحيط بنطاق العاصمة. بل إن هذه القرية باتت تطلُ على حي سكني حديث من أحياء العاصمة صار يحمل اسمها بيت بَوُسْ.
ولعل حصانة موقعها على هذا المرتفع قد ساعد على بقائها صامدة، حتى اليوم، لتكون شاهداً ليس على خصوصية القيمة الحضارية للحصون والقلاع في التاريخ اليمنيّ، وإنما، أيضاً، على فداحة المأساة التي ترتكبها المدينة اليمنيّة الحديثة في العمق التاريخي الحضاري لضواحيها، وما يمثله إهمال صيانتها وترميمها من خطر يتهدد قيمتها التاريخية لاسيما في ظل ما تعرضت له بشكل غير مباشر جراء غارات طائرات التحالف؛ وهو ما تسبب بخلخلة بعض هياكل مبانيها وبالتالي أصبحت مهددة بالانهيار في ظل ما تعانيه جراء عوامل الطبيعة التي أتت، أيضاً، على بعض المباني.
 مخرجٌ سرّي
تتمتع القرية/الحصن بموقع جبلي وفرّ لها تحصيناً دفاعياً يحميها من ثلاث جهات: الشرق والشمال والغرب، حيث لا يستطيع أحد الوصول إليها في حال الحرب أو السلم إلا عبر مدخلها الوحيد في الجهة الجنوبية، ممثلة في بوابة ما زالت قائمة تدلل على خصوصية المكانة التي كانت تتمتع بها القرية (يصفها باحثون بالمدينة أيضاً بمقاييس تاريخها) بالإضافة إلى توفر مخرج سري أو ما يسمى يمنياً بـ”الدبب” الذي يؤدي إلى الساحة الخارجية، وهو وفق أخصائي الآثار عبدالكريم البركاني، من ضمن الاحتياطات التي كانت تُستخدم للخروج الطارئ بمعنى أنها بُنيت باعتبارها مركزا مدينيا وعسكريا يُدلل على ذلك موقعها على قمة تل جبلي مُحصن تحصيناً طبيعياً وبنائها على نمط متجانس تتوفر فيه مقومات الحصن والمدن الحصينة في العهد القديم، وفق البركاني متحدثاً لـ”القدس العربي”.
المدير العام في الهيئة العامة للآثار والمتاحف في صنعاء محمد الأصبحي أكد لـ “القدس العربي” خصوصية هذه القرية: حيث تتوفر فيها كل مقومات القُرى والمدن الحصينة مثل: الماجل “عين ماء” خزانات المياه، مخازن الحبوب، السور، المدخل المحدد، والموقع المحدد فوق الجبل وغير ذلك.
تاريخ المكان
يعود تأريخها إلى عصور ما قبل الإسلام، حيث يتوفر على الصخور في الجهة الغربية منها نقش مكتوب بخط المسند ما يؤشر وفق الأصبحي لامتداد تأريخها إلى عهد مملكة حِميَر (مملكة يمنيّة قديمة قامت في القرن الثاني قبل الميلاد).
لكن هذه القرية/الحصن، وفق البركاني لم تستمر في حالة استيطان حيث هجرها سكانها واندثرت مبانيها ولم يتبق من عهدها الحِميَري إلا أساسات المباني، حتى تم استيطانها في العصر الإسلامي، واستُخدمت لمئات السنين وصارت منسوبة لعائلات. ومن ثم سكنها مسلمون ويهود في فترة لاحقة، ووفق البركاني لا يمكن الجزم بالمراحل التي استوطنها المسلمون والتي استوطنها اليهود “إلا أن ثمة مسجدا وسط الحصن يُدلل على إسلاميتها ومعاصرتها بالإضافة إلى وجود بقايا معبد يهودي بجانب البِركة الواقعة عند مدخل الحصن؛ وهي بقايا مباني أتضح لاحقاً أنها آثار لمعبد كان يُمارس فيه طقوس دينية”.
وأشار إلى أن البناء الراهن للقرية اعتمد النمط المعماري المتجانس المتوفر في بقية القرى والحصون المشيدة على التلال الجبلية في ضواحي صنعاء.
ونتيجة أن مساحة سطح الجبل محددة فإن التزايد في سكان الحصن في مرحلة ما قد أدى إلى بناء بيوت في الحيز الجغرافي المجاور في سفح التل الجبلي، بينما لا يتجاوز الموقع التاريخي موقع الحصن أعلى التل.
 
ولا يتجاوز عدد بيوت ومباني الحصن في وضعه الراهن مئة بيت ترتفع ما بين طابقين وأربعة طوابق، وتتوزع بشكل شبه دائري على سطح التل، الذي ينتصب طرفه الشرقي في مقدمة القرية.
تعاني هذه القرية/الحصن من إهمال كتَبَ بدايته أهلُها الذين هجروا مساكنهم فيها واستبدلوها ببيوت حديثة، حتى لم يعد هناك أحد من سكانها باستثناء بضع عائلات ليسوا من أهلها تسكن بعض البيوت، لتبقى معظم المباني ما بين بيوت تعاني خراباً جزئياً وأخرى انهارت كلياً. وعلى الرغم من ذلك لم تفقد هذه القرية الحصينة في غمرة تقلبات الأحوال والأزمان بريق سحرها الذي كان حتى قبيل الحرب، يجذب إليها زواراً من أقاصي المعمورة.
 المنظر والموقع
وأنت تقترب منها مخترقاً أكواماً من المباني الأسمنتية أسفل هذا الجبل يكون شوقك لرؤيتها قد بلغ مداه، خصوصاً مع فتنة المشهد الذي تتجلى عليه القرية من بعيد كأنها بتموضعها على هذا التل وبهذه الهيئة والإطلالة، لم تملّ التلويح للقادمين إليها مبتهجة كأنها تنتظر قادماً لتروي له حكايتها.
 وقد صرتُ أسفل هذا المرتفع الصخري الذي تنتصب على هامته بيوت هذه القرية الجميلة، توقفتُ، على جانب من الطريق الإسفلتية الذي يمرّ أسفل منها شرقاً، وترجلتُ عن السيارة لأقف – وقد صرتُ قريبا منها -متملياً في جبينها الشامخ بعنادٍ تتحدى من خلاله صروف الدهر وما تعانيه من إهمال وتجاهل.
تنتصب البيوت بتراصٍ عجيب ارتفاعاً وانخفاضاً يوحي لك بجمال يصعب فك شفرته؛ إلا أن البيوت المنتصبة أعلى هذه القمة بقدر ما تزداد أبهة بهذا العلو في رأس هذا التل الصخري نجدها تضيف للتل الصخري مسحة جمالية تزيد من فخامته؛ فتبدو القرية والتل كأنهما منحوتة واحدة.
يُشار إلى أن سكان اليمن يفضلون عموماً سُكنى المناطق المرتفعة لما توفره من أمان من السيول وما تتمتع به من تحصين طبيعي يحميها من غارات الحرب.
وتختلف مواد البناء باختلاف المنطقة، ففي المناطق الجبلية يعتمد البناء على الأحجار؛ ولهذا تجد منظر واجهات البيوت هنا يتماهى بمظهر الجبل.
لا تختلف العمارة في هذا الحصن عن العمارة في بقية الحصون المشيّدة على التلال الواقعة في ضواحي صنعاء، حيث التزمت هنا النمط القديم مستخدمة الأحجار المجلوبة من الوادي المجاور، كما تم اعتماد نظام المباني الملتصقة ببعضها بما يجعل منها سوراً في نهاية المطاف، أما تقسيم المباني؛ فهو تقسيم وظيفي يتشابه في جوهره مع كثير من أنماط العمارة اليمنيّة، حيث يُستخدم الطابق الأرضي حضائر للحيوانات ومخازن؛ ولهذا تجده بدون نوافذ أو تجد نوافذه صغيرة جداً، فيما تستخدم الطوابق العلوية للعائلة، ويخصص آخر طابق عادة للغُرَفِ التي تلتقي فيها العائلة، وتختص الغُرف العلوية، عادة، بنوافذ أكبر، لاسيما عندما تكون مُطِلة على منظر مفتوح كمنظر وادي أو مزرعة، وقد كانت بيوت هذه القرية مُطلة على حقول زراعية واسعة قبل التهامها من قِبل العمران الحديث.
مدخل القرية
وأنا أعود للسيارة لاستئناف الطريق صعوداً إليها، سألت أحد المارة عن اتجاه الطريق المؤدية إلى مدخل القرية فقال لي إن في إمكاني الصعود إليها مشياً عبر ما تبقى من الحقول الممتدة أسفلها، أو الصعود بالسيارة عبر الطريق الإسفلتية هذه التي صعدت بنا إلى مرتفع صخري مقابل للمرتفع الصخري الذي نبتت عليه القرية…ومن هذا المرتفع الصخري المقابل تجلى لنا المدخل الوحيد للقرية في الجانب الجنوبي.
ونحن نقترب من المدخل توقفتُ لأتملى مشهد القرية من هذه الزاوية، إذ هو أكثر إدهاشاً بفعل امتداد المشهد على طول الجبل، وقد جعلته أشعة شمس الغروب أكثر إشراقاً وأضفتْ عليه مسحة سحرية أضاءت ملامح الجمال وعكست، في ذات الوقت، تجاعيد البؤس الناتجة عن الإهمال والخراب.
 وأنت تصعد مشياً باتجاه بوابة القرية عبر طريق مرصوف بالأحجار يلفت انتباهك آثار سد مائي قديم (بِرْكَة) بالإضافة إلى بيوت متناثرة عند سفح التل المقابل من الغرب.
تتشكل بوابة القرية من منظومة معمارية متكاملة، وكان لها باب من ضلفتين خشبيتين، وعلى ما يبدو كان لها حراساً وعاملين على تنظيم الدخول والخروج في مرحلة تاريخية سابقة، بدليل بيوت الحراسة التي تتجاوز البوابة إلى جوانب القرية، حيث مازال هناك بعض الأبراج منتصبة حتى اليوم في بعض حواف المرتفع الصخري، وهو ما يوحي بأهمية التاريخ الذي عاشته القرية/الحصن باعتبارها مركزاً عسكرياً وسياسيا.
 
عقب أن تتجاوز البوابة بقليل إلى الداخل ستجد على اليمين آثار بئرٍ عميق قيل إنها كانت مصدر مياه الشرب للسكان.
 الفناء
تؤدي البوابة إلى طريق ترتفع وتنحرف بك يسارًا لتضعك على سطح الجبل الذي شُيدت عليه البيوت التي تتجلى لك ضاحكة باكية في الوقت ذاته. وعبر فناء يتوسط القرية يمكنك التنقل بسهولة بين أطرافها عبر ممرات صُممت بعناية فائقة وتؤدي جميعها إلى طرق مفتوح. فمثلاً عندما وصل بنا أحد هذه الممرات إلى حافة الجبل حيث انقطع الطريق فوجئنا بأن الطريق ينعطف ويخترق أحد البيوت من خلال بوابة فُتحت لهذا الشأن. والعجيب أن هذا الممر قد وصل بنا إلى ممر آخر يخترق بيت كبير، وكان ممراً واسعاً تنفتح عليه أبواب دكاكين صغيرة من الجانبين، قيل لنا إنه كان يوجد هنا السوق الخاص بالقرية.
من مبنى السوق إلى مبان أخرى كانت تُستخدم كمخازن عامة تحفظ محاصيل المزروعات إلى وقت الحاجة في فترات القحط والجدب. والأكثر إثارة للدهشة نظام التصريف الصحي لمخلفات المنازل؛ إذ كانت مصممة بطريقة تضمن بقاء البيوت والقرية نظيفة عليلة الهواء.
وخلال زيارتنا لبعض المنازل من الداخل وجدناها موزعة ومصممة بشكل جميل، وكم هو المنظر ساحراً من إحدى نوافذ بيوتها: منظرٌ مختلفٌ حقاً لجزء من مدينة صنعاء الجديدة، ولما بقي من مساحات خضراء انحسرت في التل أسفل القرية. ومن أبرز المعالم في القرية المسجد الذي تقول مصادر أن من بناه هو الإمام يحيى بن الحسن الرسي (892 -911 ميلادية). إلى ذلك تروي بعض المصادر أن هذه القرية كانت واحدة من مراكز فرقة المطرفية في (أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للهجرة) إلى جانب قرية سناع، وقرية بيت حنبص في ضواحي صنعاء.
وفرقة المطرفية هي إحدى فرق المذهب الزيدي الشيعي، وكانت الفرقة الزيدية الوحيدة التي أسقطت شرط “البطنين” (أولاد الحسنين) من شروط الإمامة، ونتيجة لذلك نالها من عنف الائمة الزيديين الكثير، حيث تم ملاحقة أبناء هذه الفرقة وإبادتهم ومصادرة تراثها وفق مصادر تاريخية.
أصل التسمية
اختلف الرواة في تحديد أصل تسمية هذه القرية؛ إلا أن المتفق عليه في اليمن أن كلمة “بيت” عندما ترتبط باسم فهي تعني عائلة فلان، أو تشير إلى أن هذا المكان سكنته أو تسكنه عائلة سُمي باسمها. أما كلمة “بَوُسْ” فهناك من الرواة مَن قال إنه يعود إلى “ذي بوس بن شرحبيل” وهو أحد زعامات مملكة حِميَر في تاريخ اليمن القديم، وقيل إنه كان أول مَن شيَّد قلعة عظيمة على هذا التل، وتم استغلال شواهدها وآثارها في تشييد منازل قرية أو حصن سُميت بالاسم نفسه في مرحلة تاريخية لاحقة. لكن مسألة عودة تاريخ الحصن لعهد الحميريين أمر مفروغ منه لوجود نقش قديم في الموقع، إلا أن أصل التسمية الحالية فيه اختلاف، حيث تقول رواية أخرى إن الاسم يعود إلى بَوُسْ، وهو اسم يهودي يمنيّ يُقال إنه كان أول مَن أعاد استيطان هذه المنطقة الجبلية بعد عصر الحِميَريين، وأصبحت، لاحقاً، من أهم المناطق التي سكنها وتجمع فيها بعض اليهود اليمنيين.
 وبين هذه وتلك رواية ثالثة تقول إن المنطقة سكنتها، مثل كثير من القرى اليمنيّة، عائلات مسلمة ويهودية، تناثرت بيوتهم على التل وفي الوادي إلى أن غادرها اليهود مع مغادرة الكثير منهم اليمن إلى فلسطين المحتلة في أربعينيات القرن الماضي بعد أن باعوا مساكنهم للمسلمين الذين سكنوها إلى أن اقتضت تطورات الحال إلى مغادرتها والسكن في الوادي. وعلى هوامش هذه الروايات روايات أخرى عديدة– للآسف – لم تؤكدها دراسات علمية حتى اليوم، وهو ما يعكس وجهاً آخر من وجوه الإهمال الذي يعانيه كثير من المعالم والمواقع التاريخية في اليمن.
السؤال الآن: هل ستبقى هذه المعالم أطلالاً نبكيها مدى الحياة؟ يقول أخصائي الآثار عبدالكريم البركاني: “يتوجب على الدولة سرعة وضع سياسات لإعادة تأهيل هذه الصروح الثقافية وترميم ما دمرته الطبيعة ومعالجة ما سببته غارات طائرات التحالف من أضرار غير مباشرة على مبانيها، وهو ما يضع هذا المعلم التاريخي تحديداً في نطاق الخطر، الأمر الذي يستدعي من الدولة البدء السريع في وضع برنامج انقاذ وتنفيذ إجراءات معالجة وصيانة وإعادة تأهيل مباني الحصن واستثماره، لاحقاً، كاستديو مفتوح ومزار سياحي يعكس جزءاً من حياة اليمنيين القدامى وعلاقتهم بالقلاع والحصون”.
نقلا عن القدس العربي
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى