محمد عبده وتولستوي

د. عبدالله القيسي

دعونا نتعرف بشكل موجز على هذين العملاقين لنعرف تلك القواسم والسمات المشركة.

في متحف تولستوي عملاق الأدب الروسي في موسكو هناك صندوقان متلاصقان من الزجاج يوجد بداخل منهما رسالة يعود تاريخها إلى ما قبل 115 سنة تقريبا، الرسالة الأولى باللغة الفرنسية وهي بتوقيع تولستوي والرسالة الثانية باللغة العربية بتوقيع الشيخ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت.

ما الذي يجمع مفكر وكاتب وأديب كتولستوي بإمام ومفكر ورجل دين إسلامي كمحمد عبده، في الواقع من يدرس هاتين الشخصيتين عن قرب سيجد أن هناك قواسم وسمات عامة وسمات شخصية كثيرة مشتركة بينهما.
دعونا نتعرف بشكل موجز على هذين العملاقين لنعرف تلك القواسم والسمات المشركة.
تولستوي مفكر وأديب وفيلسوف ومصلح اجتماعي وداعية سلام يعتبر من عمالقة الأدب العالمي، وهو مع ديستوفسكي يعتبران أعظم رمزين في تاريخ روسيا الثقافي والحضاري، تولستوي النبيل الثائر عاش حياة الفلاحين رغم أنه كان يملك لأرض وما عليها، كان نبي الاشتراكية الحقيقي، وزع أغلب أراضيه على الفقراء والفلاحين الذين يعملون لديه، وبنى مدارس لأبنائهم وكان هو من يدرسهم، حتى إن عائلته اتهمته بالجنون وأرادت الحجر عليه وعلى أملاكه بسبب توزيع ثروته على الفقراء.. وفي نهاية حياته وجدوه ميتا من البرد نائما خارج بيته!!
أما محمد عبده فإمام وداعية ومجدد إسلامي وكاتب ومفكر من الطراز الرفيع، ومن أبرز دعاة الإصلاح والتطوير والتجديد الديني، وعلم من اعلام النهضة العربية الإسلامية في العصر الحديث، حاول تحرير العقل العربي من الجمود، ومن التطرف الفكري، قاد ثورة اصلاحية داخل الأزهر، وواصل تلاميذه من بعده حمل مشروعه فكان رائد التنوير ومجدد الخطاب الديني في القرن العشرين بلا منازع.
كان الاثنان من أعظم مفكري عصرهما، وأبرز من قدما للبشرية فكراً وتنويراً وإلهاماً، رغم اختلاف ديانتهما.
كان الإمام محمد عبده، والأديب والروائي الروسي ليو تولستوي يعيشان في فترة زمنية واحدة، وأحدث الاثنان نهضة فكرية أصبحت وثيقة إنسانية تلهم الآخرين إلى الحب والتسامح وتنير العقول والألباب.
ورغم اختلاف المسافات بينهما إلا أنهما تلاقيا فكرياً وروحانياً، ثم تواصلت الرسائل والأفكار بينهما.
قرأ الشيخ محمد عبده روايات تولستوي وكتابه حول حكم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان تولستوي رغم ديانته المسيحية معجباً بالنبي محمد ومحباً للإسلام، ويراه ديناً راقياً يدعو للسلام والحياة ورقي الإنسان، وهو ما أعجب الشيخ محمد عبده بالأديب الروسي وجعله يقبل على قراءة رواياته.
اتفق الاثنان على أن الدين والإنسان يصنعان الحياة، وأن الإنسان هو أغلى وأثمن ما في هذه الحياة، وجاء الدين ليرتقي ويسمو بنفس وعقل هذا الإنسان ليصنع الحياة ويعمرها.
يقول الدكتور مالك منصور، حفيد الإمام محمد عبده، إن رسالتين متبادلتين بين جده الإمام وتولستوي مازالتا محفوظتين في متحف تولستوي بموسكو شاهدتين على تسامح الأديان وعظمة الرجلين ودعوتهما للخير والحب ونبذ التعصب.
ويضيف أن جده كتب الرسالة النادرة بخط يده وأرسلها بريدياً، وكان وقتها يشغل منصب مفتي مصر، ورد تولستوي على الرسالة بأخرى رقيقة محبة ونبيلة، مليئة بكل القيم والمثل الإنسانية الجميلة.
وإليكم نص الرسالتين:
نبدأ برسالة الإمام محمد عبده وتقول تفاصيلها:
“عين شمس – ضواحي القاهرة – فى 8 إبريل 1904
أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي
لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويرقي به نفسه، شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم و زعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم”.
وتضيف رسالة محمد عبده: “وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إماماً يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للفقراء، وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو الذي سموه بالحرمان والإبعاد، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم، هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قواك، ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام.
مفتي الديار المصرية
محمد عبده
إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسية فأنا لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها.
محمد عبده
ورد تولستوي بخطاب رقيق إلى محمد عبده يقول فيه:
“المفتي محمد عبده
صديقي العزيز
تلقيت خطابك الكريم الذي يفيض بالثناء علي، وأنا أبادر بالجواب عليه مؤكداً لك ما أدخله علي نفسي من عظيم السرور حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أهل ملة غير الملة التي ولدت عليها وربيت في أحضانها، فإن دينه وديني سواء لأن المعتقدات مختلفة وهي كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح، وأملي ألا أكون مخطئا إذا افترضت، استناداً إلى ما ورد في خطابك، أن الدين الذي أؤمن به هو دينك أنت، ذلك الدين الذي قوامه الإقرار بالله وشريعته والذي يدعو الإنسان إلى أن يرعى حق جاره، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه. وأود أن تصدر عن هذا المبدأ جميع المبادئ الصحيحة، وهي واحدة عند اليهود وعند البرهمانيين والبوذيين والمسيحيين والمحمديين.
واعتقادي أنه كلما امتلأت الأديان بالمعتقدات والأوامر والنواهي والمعجزات والخرافات تفشي أثرها في إيقاع الفرقة بين الناس، ومشت بينهم تبذر بذور العداوة والبغضاء. وبالعكس كلما نزعت إلى البساطة وخلصت من الشوائب اقتربت من الهدف المثالي الذي تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعاً.
من أجل ذلك ابتهجت بخطابك ابتهاجاً غامراً، وودت أن تقوى بيننا أواصر القربى والتواصل.
تفضل أيها المفتي العزيز محمد عبده بقبول وافر التقدير”.                                                      
  تولستوي
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى